ليث كزار
طلبتُ منها أنْ تنزاحَ إلى اليسار قليلًا كي يظهر اسم المقهى. قلتُ لها إنّها سُتري هذه الصورة بعد سنواتٍ لأطفالها لتخبرهم أنّنا احتفلنا سويًا بعيد ميلادها في مقهى الشابندر، الأشهر في بغداد. تأكدتُ أنَّ الصورة ستكون جميلةً ومميّزةً مثلها. وهل هناك أجمل من نسرينتي التي ظلّتُ تزيّن عالمي الكالح وتنيره بضحكاتها الطفولية؟ رفضتُ توسّلاتها لي بأنْ أظهر معها بالصورة.
-أنتِ الحسناء لكنّني لا أريد أنْ أكون الوحش في صورتكَ. قلتُ بمرارةٍ وأنا أتظاهر بالضحك. ضغطتُ زر التصوير. لا أعرف ماذا حدث بعدها. لا أتذكّرُ غير صوت انفجارٍ هائلٍ دوى صوته في المكان ليستحيل النهار ليلًا. أفقتُ بعد ساعةٍ أو ربّما ساعاتٍ أو أيامٍ، لا أعرف. بدا واضحًا أنّني في المستشفى. وجهي ويداي مغطاةٌ بضماداتٍ بيضاء. ابتسم الطبيب الشاب الذي كان يقفُ إلى جوار سريري وقال وهو منشغلٌ بكتابة شيءٍ ما في ملفٍّ فَرَشَه على طاولةٍ علتْ السرير عند قدمي:
– الحمد لله على السلامة. لقد نجوتَ بأعجوبةٍ. قال بصوتٍ حاول أنْ يكون هادئًا قدر المستطاع. لم أجبه. كنتُ أحاول أنْ أستوعب ما أنا فيه.
– الانفجار كان كبيرًا ولولا لطف الله وعصف الانفجار الذي رمى بكَ بعيدًا، لكنتَ في مكانٍ آخر الآن.
هذا الطبيب يجاهد ليبتسم. كلُّ حركاته وسكناته تشير إلى أنّه يُخفي شيئًا. أدرتُ عيني بالغرفة. كان هناك العديد من الأسرّة التي تفصل بينها ستائر زرقاء اللون. لم أقوَ على استكشافِ ما يُوجد خلف الستائر المحيطة بي. كنتُ مخدّرًا حدّ اللعنة. عُدتُ لأتصفح وجه الطبيب الذي تظاهر بالانشغال بتوجيه تعليماته للممرضة التي تقف إلى جانبه كالبلهاء. شعرتُ أنّه يريد أنْ يقول شيئًا. بلعتُ ريقي بصعوبةٍ. تذكّرتُ الآن. كانت نسرين معي هناك. ماذا حلَّ بها؟ حاولتُ الإتيان بأيّ حركةٍ دون جدوى.
– اين هي؟ هل هي بخير؟ ماذا حصل لها؟
قلتُ بصوت هامس مجهد ففمي جافّ لدرجة أنّني كنتُ أتحدث بصعوبةٍ.
– اهدأ. أنتَ تحت تأثير المهدّئات. إصاباتكَ بليغة ممّا اضطرنا لإجراء عدّة عملياتٍ جراحيةٍ لإنقاذكَ.
– هذا غير مهمّ الآن. أين هي؟
– مَنْ هي؟
– نسرين. نسرين أختي. كانت معي.
– لا أعرف. سأسأل عنها حالًا. اهدأ الآن وأعدك أنْ أعود إليكَ بعد قليلٍ بأخبارٍ عنها.
هل هناك شخص من عائلتكَ لنتصل به؟
– لم يتبقَ من عائلتي غير نسرين. هي كلّ عائلتي.
– أعدكَ أنْ أبحث عنها حالًا. المهم أنَّ حالتكَ مستقرةٌ حاليًا. ستحتاج لاحقاً إلى عددٍ من عمليات التجميل لتعود أكثر وسامة من السابق. عدا هذا، أنتَ بخير.
– عمليات تجميلٍ؟ لماذا؟
– للأسف احترق وجهكَ ورقبتكَ. الحروق التي أصابتكَ معظمها من الدرجة الثانية لكن بعضها من الدرجة الثالثة وهذه ستتركُ ندوبًا عميقةً. نحن حاولنا تقليل الضرر إلى…
لم أعد أسمع ما يقول. كنتُ أريد أنْ أصرخ. أنْ أخبره عن خبرتي عن الندوب العميقة التي يتركها هذا النوع من الحروق. لم أقوَ على التحرّك ولم يخرجْ صوتي. وددتُ لو أضحك ضحكةً تصمُّ آذان الموجودين في المكان. هذا الطبيب الغرّ الذي يقف متبخترًا بمعطفه الأبيض يظنُّ أنَّ سنوات دراسته الست وسنوات خبرته القليلة أهلّته ليعرف أكثر منّي ماهيّة النّدوب العميقة التي يتركها هذا النوع من الحروق.
كنتُ قد عدتُ توًا من الجامعة. رنّ جرسُ الهاتف فيما كنتُ أتناول غدائي. كانتْ والدتي ونسرين تعرفان هويّة المتّصلة. غمزتْ نسرين لوالدتي فأسكتتها بإشارةٍ من يدها. تركتُ الطعام وسحبتُ الهاتف إلى غرفتي. كانت غيداء على الجانب الآخر من الخط. جاء صوتها خائفًا مرتعشًا. قالت إنَّ سيارةً ذهبيةً بورش كانت تتبعها طيلة الطريق من المنصور حيث كانت تشتري بعض احتياجاتها إلى البيت وإنَّ السيارة البورش لم تغادرْ حتى تأكّد سائقها من دخولها منزلهم وغيابها عن ناظريه.
كنّا في عام ١٩٩٦ وقليلون هم الذين يملكون هذا النوع من السيارات غالية الثمن. أخبرتها أنَّ الموضوع قد يكون صدفةً أو أنَّ أحدًا ما من ابناء المسؤولين الكبار في منطقتهم يحاول لفت انتباهها. طمأنتها وطلبتُ منها أنْ تتجاهل الموضوع ويمكنها أنْ تخبر والدها إنْ ضايقها صاحب تلك السيارة. حتى أنّني مازحتها قائلًا: واو. سيارة بورش؟ لا يمكنني المنافسة. ضحكتْ وهي تقول: أنتَ آخركَ فولكس واكن.
لم تعرف غيداء أنّني لم أكن أمزح وأنّني فعلًا لا يمكنني المنافسة. أنا خارج المنافسة حتى قبل أنْ تظهر تلك البورش الذهبية. فغيداء الممشوقة القوام ذات العينين الزرقاوين والشعر البني الطويل، تتحدر من عائلةٍ غنيةٍ من العوائل البغدادية المعروفة وابنة مدير أحد أكبر البنوك العراقية الحكومية، فيما أتحدر أنا من عائلةٍ متوسطة الحال، ولولا تكفّل جدّي بمصاريفنا منذ هروب والدي في الثمانينات بعد اتهامه بالانضمام إلى أحد الأحزاب الإسلامية وطرد والدتي من وظيفتها، لكنّا الآن نعاني شظف العيش كعشرات الآلاف من العراقيين الذين واجهوا الظروف نفسها. كانت غيداء من القليلين جدًا في بغداد والجامعة الذين يعرفون ظروف عائلتي إلا أنَّ هذا لم يمنعها من قبول صداقتي التي تحوّلتْ إلى حبٍّ جارفٍ بمرور الوقت. لم أتجرأ على البَوح لها بمشاعري على الرغم من أنّنا كنّا نقضي معظم الوقت سويًا طيلة سنوات الدراسة الأربع. علمتْ هي أنَّ ظروفي هي التي تمنعني من مفاتحتها فبادرتْ هي ووعدتني أنْ تحارب العالم كلّه لنظلّ سويًا. كلانا كان غرًا ولم نعرف ما كان ينتظرنا.
التقيتُ بغيداء في اليوم التالي بعد أنْ انتهت المحاضرة الأولى. كانت تقف برفقة صديقتها نهى. بدا وجهها شاحبًا وعيناها محمرتان. كانت دموعها تنهمر دون توقفٍ. انقبض قلبي. شعرتُ أنَّ خطبًا ما قد حدث. نظرتُ إليها ثم إلى نهى. لم تستطعْ غيداء الكلام فتبرّعتْ نهى بالإجابة. قالت: إنَّ العمادة أرسلتْ بطلب غيداء وأنَّهم أبلغوها أنَّ اتصالًا وردهم من مكتب الأستاذ يطلب حضور غيداء إلى مبنى اللجنة الأولمبية في شارع فلسطين مساء الغد عند السادسة. لم أفهم عن أيّ أستاذٍ تتحدث نهى؟ وما علاقة اللجنة الأولمبية بغيداء؟
احتجتُ لعدّة دقائق لأستوعب الأمر. بورش ذهبية، الأستاذ، اللجنة الأولمبية. يا إلهي إنّه عدي. عدي هو خصمي. ألم أقل إنّني خارج المنافسة من حيث المبدأ. كيف لم أفهم هذا منذ البداية؟ مَنْ هذا الذي يملك بورش ذهبية ويجرؤ على الاستعراض بها في المنصور وملاحقة الفتيات غيره؟
شعرتُ بخنجرٍ يغرس في صدري. كيف لريشةٍ أنْ تواجه العاصفة؟ هذا ليس عاصفة. هذا إعصارٌ مدمّرٌ. مَنْ هذا الذي يجرؤ على الوقوف بوجهه؟ لم أعرف ماذا عليّ أنْ أقول. عقلي توقّف عن العمل ولساني انعقد. بركتُ على الأرض، فلم تعدْ قدمايَ قادرتان على حملي.
– عليكِ أنْ تخبري والدكِ فربّما استطاع الاتصال بأحد معارفه المقرّبين من الرئيس ليخرجكِ من هذا المأزق. قلتُ بصوتٍ مهزومٍ.
لم تتوقف غيداء عن البكاء. هي لم ترفع رأسها نحوي حتى ولم تقل كلمة.
طلبتُ منها أنْ تنظر إليَّ. أنْ تقول شيئًا. قلتُ لها إنّني مستعدٌ أنْ آخذها الآن ونسافر إلى بيت عمي في العمارة. هناك حيث لا يعرفنا أحدٌ ولا يمكن لعدي أو أيّ من زبانيته الوصول إليها. صرختُ أنَّ عليها أنْ تقرّر سريعًا ماذا تريدني أنْ أفعل.
يبدو أنَّ صوتي كان مرتفعًا للدرجة التي لفتتْ انتباه مجموعةٍ من الطلبة كانوا يقفون قريبًا. اقترحتْ نهى أنْ نغادر المكان. أصررتُ على مرافقتهما وإيصال غيداء إلى البيت.
لم أعرف ماذا حدث مع غيداء بعدها. اتفقنا على أنْ نتغيّب عن الجامعة على أنْ نتواصل هاتفيًا، لكنّها لم تتصل. حاولتُ الاتصال بهاتف منزلها عشرات المرّات طيلة الليل، إلّا أنَّ الهاتف كان مفصولًا عن الخدمة.
كنتُ سأُجنُّ في ذلك اليوم. أردتُ أنْ أعرف ما حدث معها. هل أخبرتْ والدها؟ هل نجح والدها بتخليصها من براثن ذلك القذر؟ هل ذهبتْ إلى اللجنة الأولمبية؟ هل؟ هل؟ هل؟
مليون هل وهل نغّصتْ عليَّ ساعات ذلك اليوم التي مرّتْ بطيئةً قاتلةً. فكّرتُ أنْ أذهب إلى منزلها وليحدث ما يحدث. علّي أنْ أكون معها في هذا الوقت. لا يمكن أنْ أتركها وحيدةً في مثل هذه الظروف.
خرجتُ عند الثالثة ظهرًا. كانت شمس آذار تلسعني بسياطها إلا أنّني أردتُ أنْ أصل إلى منزلهم بأيّ ثمنٍ قبل أنْ يحين ذلك الموعد اللعين. توقّفتْ بجانبي سيارة لاندكروز بيضاء اللون بلوحة أرقامٍ حكوميةٍ وترجّل منها شخصان أمراني بالصعود معهما دون مقاومة. فكّرتُ بالهرب إلا أنَّ ملامح وجهيهما الصارمة والمسدسين اللذين استقرّا عند خصريهما، منعاني. لم ينبسا ببنت شفة واكتفيا بدفعي بعنفٍ إلى داخل السيارة والانطلاق سريعًا نحو طريق المطار.
للرضوانية. هذا ما قاله أحدهما للسائق بلهجةٍ آمرةٍ.
كان الطريقُ طويلًا والخوف أعطب جزءًا من خلايا دماغي حتى أنّني لا أتذكر ملامح أولئك الرجال الذين جرّوني من داخل السيارة التي توقّفتْ أخيرًا داخل مزرعةٍ مترامية الأطراف. خمّنتُ أنّها مزرعة الأستاذ كما كانوا يلقّبونه. ألقوني في غرفةٍ مظلمةٍ لبعض الوقت قبل أنْ تبدأ حفلة ضربي وشتمي في ذلك المساء. كان يتناوب على ضربي اثنان من الرجال حتى أفقد وعيي. حفظتُ الدرس بعد ايام فصرتُ أتصنع فقدان الوعي بعد عدّة ركلاتٍ. لم يتحدث إليّ أيٌّ من أولئك الذين كانوا يتناوبون على ضربي غير أنَّ بعضهم كان يتلذّذ بصوتي وأنا أتوجع وينعتني بابن العميل بين ركلةٍ وأخرى. مرَّت عدة اسابيع وأنا على هذه الحال. تبدأ حفلة ضربي عند الظهيرة يعقبها توقّفٌ لساعتين أو ثلاث لتناول الطعام الذي كانوا يرمونه لي وكأنّني حيوانٌ، ثم تبدأ الحفلة المسائية. لم أجد وقتًا للتفكير. كانت الآلام المُبرحة لا تمنح عقلي فرصةً للتفكير فيما أنا فيه أو ما يحدث خارجًا. أنا لم أفكّر حتّى بوالدتي التي أراهن أنّها جُنّتْ لعدم معرفتها أين أنا. هاجسي الوحيد كان يتمحور حول سؤالٍ واحدٍ. واحد فقط وهو متى ينتهي هذا الكابوس؟
لم تتأخر الإجابة التي أنتظرها، كثيرًا. جاءني أحدهم وهو يتلمظ مبتسمًا. قال ساخرًا إنَّ الأستاذ قرّر أخيرًا كيف عليهم إنهاء هذه الحفلة. لم أفهم ماذا يعني حينها لكن حفلات الضرب توقفت. لا اعرف كم أسبوعا بقيت على تلك الحال، فقد توقفت عن العد منذ وقت طويل. فجآة جاء اثنان من الحرّاس في ذلك اليوم الآسود وجرّاني إلى الخارج عبر ممر اصطفّتْ على جانبيه شجيراتٌ مشذّبةٌ بشكلٍ أنيقٍ حتى أنّها بدتْ جميعًا متساوية الطول. احتجتُ لبعض الوقت لتعتاد عينايَ على ضوء الشمس السّاطع. لم نبتعدْ كثيرًا. انحرف الرجلان بي في ممرّ جانبي انفتح على باحةٍ مربعة الشكل رسمت حدودها أشجارٌ من نوعٍ ما لا أعرفه فيما غطّى ثيّلٌ كثيفٌ أرضيتها. لم أتبين ما يفعل ثلاثةٌ من الرجال كانوا يتحلّقون حول حفرةٍ صغيرة ٍتنبعث منها نيرانٌ يبدو أنّها أضرمتْ حديثًا. رماني الحارسان على الأرض قريبا منها وجثا أحدهما على صدري فيما ثبّتَ الآخر جانب وجهي الأيمن على الأرض بقوّةٍ. لم يدرْ في خلدي ما يخططون لفعله. حبستُ أنفاسي. كنتُ أظنّهم يثبتونني ليبدأ صاحبهم بركلي، إلا أنَّ هذا كان سيكون لعبة أطفالٍ مقارنةً بما فعله ذاك الذي كان يضحك بصوتٍ عالٍ وهو يقترب منّي بخطى متمهّلة بدا أنَّ صاحبها كان يستمتع بكلّ جوارحه بما يفعل. اقترب ذاك الحقير منّي ثم جثا على ركبتيه عند رأسي وقبل أنْ أتبيّن ما يحدث وضع على خدّي الأيسر مكواةً حديديةً كبيرةً ساخنةً.
لا أتذكر غير أنّني صرختُ حتى شعرتُ أنَّ رئتيَّ انفجرتا وضاع صوتي. لم أفقْ بعدها إلا عندما ألقوني من السيارة على رصيف أحد الشوارع وسط بغداد وهم يضحكون فيما همس أحدهم في أذني قائلًا: لا تنسى هذا الدرس. لا أحد ينافس الأستاذ. تذكّر هذا يا شاطر.
وددتُ لو أخبر ذاك الطبيب أنّني شاطرٌ. شاطرٌ جدًا حتى أنّني مستعدٌ لأعلمه وزملائه كيف ترسم الندوب العميقة حياة بعض الناس وتدفنهم وهم أحياء كما دفنتني أربعة عشر عامًا.