أحمد السالم
منذُ أنْ كنتُ في السادسة من عمري، اعتدتُ أنْ أسأل والدتي عن أخي تراث كلّما افتقدته. كانت هي تجيبني في كلّ مرّةٍ إجابةً مُقتضبةً ومُبهمةً. كانتْ تقولُ إنّه ذهب إلى ساحة الطيران
لم أفهم حينها لماذا ذهب تراث إلى ساحة الطيران؟ وأين تقع هذه الساحة؟ ولماذا لم يعد حتى الآن؟
وكأيّ طفلٍ يحرقه الفضول، كنتُ أعاود السؤال بإلحاحٍ أملا بالحصول على إجابةٍ مختلفةٍ. لم تتغيّر الإجابة يومًا. صارتْ والدتي تتصرف بشكلٍ آلي منذ أنْ ذهب تراث إلى ساحة الطيران. كانت هادئةً جدًا وشاردةً معظم الوقت. أحاديثها مقتضبةٌ ونظراتها زائغةٌ وملامح وجهها جامدةٌ لا تشي بما يدور في داخل رأسها.
لم يوقفني صوتها الزاجر عن طرح المزيد من الأسئلة كلّ مرّةٍ. أين ذهبَ تراث؟ ومتى يعود؟ ولماذا لم يعدْ حتى الآن؟ وووووو
الأسئلة تحرقني وأجوبة والدتي التي تزداد غموضًا في كلّ مرّةٍ تصبّ زيتًا على نيران فضولي فتزيدها اشتعالا.
لماذا يذهب أحدهم إلى ساحة الطيران ويظلّ هناك لسنواتٍ؟ والدتي تقول إنَّه سافر إلى ساحة الطيران. هل يُعقلُ أنَّ ساحة الطيران هي اسم البلد الذي ذهب إليه تراث؟ أين يقع هذا البلد؟ وكيف يمكن الذهاب إليه؟
ترفض والدتي الإجابة عن أيّ من أسئلتي. مرّةً غضِبتْ منّي جدًا فرمتني بوعاءٍ بلاستيكيّ كانت تشطفه ثم التفتتْ إليّ قائلةً وعيونها تتطاير شررًا:
اذهبْ إلى ساحة الطيران وانتظره إنْ كنتَ تريد رؤيته مجدّدًا. انتظره هناك، ربّما يأتي بعد أنْ يملّ الغياب.
لم أفهم ما تعنيه والدتي لكنّني فرِحتُ جدًا أنّها أخبرتني شيئًا جديدًا هذه المرّة. هي قالت إنّه يمكنني انتظار تراث هناك في ساحة الطيران، وإنّه قد يأتي يومًا، لكنْ هل يمكن هذا؟ هل يمكنني حقًا الذهاب إلى ساحة الطيران؟ والدتي تقول في كلّ مرّةٍ إنَّ تراث ذهب إلى ساحة الطيران لكنّها هذه المرّة قالت: اذهب وانتظره هناك، ماذا تقصدُ بهذا؟ هل غادر تراث ساحة الطيران وتوجّه إلى مكانٍ آخر؟
ولكنْ يا أمّي كيف أذهب إلى ساحة الطيران؟ لماذا غادر تراث ساحة الطيران؟ وأين ذهب هذه المرة؟
مرّتْ عدّة سنواتٍ قبل أنْ أعرف أين تقع ساحة الطيران . كان الطلاب في المدرسة يتحدّثون عن الجثث المجهولة التي كانت تظهر هناك في بعض الصباحات وعن والأهالي الذين يتوافدون إلى المكان بحثًا عن أحبّائهم المفقودين. عرفتُ أنَّ ساحة الطيران هي إحدى المتنزّهات العامة التي تقع وسط البصرة لكنّني لم أعرف ما علاقة تراث بهذا المكان؟ ولماذا قد يرغب شخصٌ ما بالبقاء مع أو بالقرب من الجثث التي يتحدّثون عنها؟ ترى هل ذهب تراث إلى هناك بحثًا عن أحدٍ ما؟
لم يكن هناك بدًّا من العودة إلى أمي. رأسي يكاد ينفجر من كثرة الأسئلة. عليها أنْ تجيبني. أنْ تخبرني لماذا ذهب تراث إلى الساحة؟ ولماذا لم يعد حتى الآن؟ ولماذا لا تذهب هي أو أبي إلى هناك لإعادته؟
كنتُ أمنّي النّفس بحديثٍ طويلٍ يمدّني ببعض التفاصيل ويضع حدًّا لضجيج الأصوات التي يزخر بها رأسي منذ سنواتٍ.
لن أقبل بصمتها جوابًا هذه المرّة. علينا أنا وهي أنْ نصل إلى تسويةٍ ما. تمنحني هي بعض الوضوح مقابل هدوءٍ أمنحه لها قد يمتدّ لعدّة أسابيع أو ربّما أشهر.
أظنّها تسويةً رابحةً لكلينا.
كانتْ تجلس هناك بالقرب من الباب الداخلي لغرفة المعيشة حيث اعتادتْ منذ سنواتٍ. اقتربتُ منها بودٍّ. جلستُ قربها ورحتُ أتمسّح بها كقطٍّ صغيرٍ. لا أريد المجازفة بإغضابها. غضبها سيُنهي الحديث مبكرًا.
-أمّي هل سيعود تراث يومًا؟
سألتُ بصوتٍ هادئ حرصتُ على أنْ يكون حياديًا
نفذتْ زفرةٌ حرّى قبل أنْ تجيبني. شعرتُ أنّها تنظر بعيدًا عنّي وتجاهد لتُخفي دموعًا عاندتها وفرّتْ من مقلتيها.
- أخوك كان يتجنب طرح الأسئلة التي ليس لها إجاباتٌ.
قالت وهي تغصّ بريقها. لم أقاطعها. اعتدلتُ في جلستي ورحتُ اترقّبُ ما تجود به شفتيها.
- ذات مرّةٍ. هه. سألني قائلًا يا أمّي ماذا لو غادرتُ يومًا ولم أعُد؟
سؤاله شلّني. شعرتُ أنَّ عقلي قد توقّف عن التفكير للحظةٍ. كيف لأمٍّ أنْ تتعايش مع فكرة غياب ابنها؟ هل يدرك هذا المخبول ما يقول؟ أخذتُ نفسًا عميقًا وقلتُ ممازحةً
- أيّ امرأةٍ هذه التي ستأخذكَ من والدتكَ؟
توقفتْ والدتي عن الحديث فجأةً. بدا وكأنّها أدركتْ أنَّ قبضتها على هذه الحكاية بدأتْ ترتخي وأنّها قد تكشف أكثر ممّا ترغب. أخذتْ نفسًا عميقًا وقالتْ بحزمٍ قتلَ أيّة فرصةٍ لمواصلة الحديث معها عن هذا الموضوع.
- اذهب إلى ساحة الطيران وانتظره هناك، قد يعود يومًا.
منذ ذلك الحين صار ارتياد ساحة الطيران مساء كلّ يومٍ وانتظار تراث هناك بجوار إحدى شجيرات الرازقي الصغيرة، أحد طقوسي اليومية بالأخص بعد أنْ التحقتُ بالجامعة ولم أعدْ مُطالبًا كثيرًا ببيان خط سيري لوالدتي التي لم أعدْ أضايقها بالسؤال عن تراث أو الساحة بعد تلك الليلة.
بدا وكأنّ كلينا التزم بهدنةٍ غير معلنةٍ، طويلة الأمد. لم أخبرها أنّني صرتُ من روّاد الساحة وأنّني لا زلتُ أنتظر عودة تراث كما طلبتْ منّي، وهي من طرفها لم تسألني وظلّتْ تقضي معظم أوقاتها في عالمٍ مُوازٍ ليس لنا مكانٌ فيه.
مرّتْ عدّة سنواتٍ حصل فيها الكثير. تغيّرتْ ملامح ساحة الطيران واشتعل رأس أمّي بالشيب وانحنى ظهر والدي، إلّا أنَّ تفاصيل يومي لم تتغيّر كثيرًا، فتراث لم يعدْ وشيفرة رحلته العجيبة إلى ساحة الطيران لم تتفكّك بعد.
في أحد أيّام آب اللهّاب كما يحلو لجدتي أنْ تصفه، كنتُ أتجول في سوق الجمعة وأنا مأخوذ بالمقتنيات القديمة التي يعرضها اصحابها للبيع لقاء مبالغ زهيدةٍ. كنتُ أفكّر بكمّ الذكريات التي تختزنها كلّ واحدةٍ من هذه المقتنيات. كيف لشخصٍ أنْ يتخلّى عن ذكرياته بهذه البساطة؟ قلتُ محدّثًا نفسي قبل أنْ ينتشلني صوت بائعٍ قريبٍ كان يروّج لبضاعته بطريقةٍ مثيرةٍ للشفقة.
- ثلاثةٌ بألفٍ. ادفعْ ألفًا واحصلْ على ثلاثةٍ. ثلاثةٌ بألفٍ.
توقّفتُ لأعرف ما يبيع. كان يفترش الأرض وأمامه كومةٌ من الأقراص الليزرية. أثارت كومته فضولي. جثوتُ على ركبتي ورحتُ أقلّب في كومة الأقراص علّي أعثر على ما يستحقّ المشاهدة أو الاحتفاظ به. لم يُلفتْ انتباهي أيٌّ من عناوين الأفلام والمسرحيات وألبومات الأغاني المعروضة. استقمتُ واقفًا ورحتُ أنفضُ التّراب عن بنطالي. هممتُ بالابتعاد إلّا أنّني لمحتُ طرف أحد الأقراص التي أفلتتْ من صاحبها واندسّتْ تحت الحصيرة. أشفقتُ على الرجل والتقطتُ القرص لأعيده إلى مكانه. وقبل أنْ أفلتَ القرص من بين أصابعي، خطف عيني العنوان المكتوب على القرص بخطٍ يدويّ وقلمٍ عريضٍ اسود لوحته الشمس فبات باهتًا.
“اعترافاتٌ سرّيةٌ” هذا ما خطّته تلك اليد بالقلم الأسود على القرص. لم أسمعْ عن فلمٍ أو مسرحيةٍ بهذا العنوان. تردّدتُ للحظةٍ. صوتٌ فضوليٌّ الذي هدأ منذ سنواتٍ، صحا فجأةً وراح يتراكض في أرجاء رأسي كطفلٍ صغيرٍ أثارتْ انتباهه لعبةٌ جديدةٌ. التقطتْ قرصين آخرين بشكلٍ عشوائيّ ودفعتُ ثمن الأقراص الثلاثة وأسرعتُ مبتعدًا.
كان فضولي في ذروته. أحضرتُ مشغّل الأقراص الليزرية فور وصولي إلى المنزل وربطته على التلفاز وشرعتُ بتشغيل القرص.
بدا واضحًا أنَّ المشاهد قد تمّ تصويرها بكاميرا هاتفٍ جوالٍ قديمٍ وأنَّ المصور لم يكن بارعًا. فالصورة مشوشةٌ وتتحرّك كثيرًا. مرّتْ عدّة دقائق قبل أنْ أفهم ما تعرضه الشاشة أمامي. من الواضح أنّه تصوير جلسة استجوابٍ لمجموعةٍ من الشباب. لم تكن الوجوه واضحةً تمامًا فالمصور لم يكن يثبّتُ الكاميرا على أيّ من الوجوه طويلًا فضلًا عن أنَّ وجوه المستجوبين الذين كانوا يرتدون زيا مدنيا لا يكشف عن هويتهم، كانتْ مغطاةً بشكلٍ شُبه كاملٍ. كان الملثّمون يضربون الشباب بوحشيةٍ وبشكلٍ عشوائي وفيما كان الشباب يتدافعون بعيدًا ويلوذ بعضهم ببعضٍ لتفادي الضربات، لمحتُ وجهه. لستُ متأكدًا إنْ كان هو فالفوضى تعمّ المشهد، والتصوير لم يكن واضحًا، لكنّ شيئًا ما اعتصر قلبي وفتح جرحه الكبير المسمّى تراث.
لابدّ لهذا الوجع أنْ ينتهي اليوم. هذا كان قراري الذي اتخذته في تلك اللحظة والذي لن أتراجع عنه أبدًا. هرعتُ إلى والدتي. صرختُ بوجهها. بكيتُ. بكيتُ كأمّ ثَكلى. توسّلتُ إليها. قبّلتُ يديها. لا أريد شيئًا غير أنْ أعرف ما حدث. طمأنتها. أقسمتُ لها إنّني لن أختفي كما اختفى تراث.
كان تراث قد تخرّج حديثًا من كلية الآداب – قسم الفلسفة، وكان كمعظم أقرانه مبهورًا بفضاءات الحرّية الواسعة التي ظلّلتْ العراقيين بعد سقوط نظام صدام حسين الديكتاتوري . كان تراث يُجيد الكتابة ويبرع في طرح الأفكار الكبيرة ومناقشتها إلّا أنَّ شعوره بالزَّهو بشبابه وكتاباته أنساه الثمن الذي قد يدفعه أيٌّ منّا في غفلةٍ من الزمن عندما يصطدم بعقود من التجهيل المتعمد.
كان تراث قد نشر توًا مقالًا يتحدّث فيه عن “التفكير بعيدًا عن المحدّدات الموروثة”. لم يفرح بذلك المقال طويلًا. اختطف قبل مَغيب شمس ذلك اليوم إلّا أنّنا لم نعرف حتى اللحظة أيّ جماعةٍ أخذته؟ وأين ذهبوا به؟ وكيف؟ ولماذا؟
لا نعرف حتى إنْ كان حيًا أم ميتًا.
كان رأسي ثقيلًا وعيناي تحرقانني. كفكفتُ دموعي وانسحبتُ إلى غرفتي وأنا أجرُّ خلفي خيبات الكون كلّه.
عدتُ في اليوم التالي إلى ساحة الطيران. لابدّ لهذه الحكاية من خاتمةٍ. جلستُ في مكاني المعتاد. شعوري كان مختلفًا هذه المرّة. لم آتِ لانتظار تراث. كنتُ هناك لأودّعه. قاومتُ رغبتي بالبكاء. تساءلتُ إنْ كنتُ أنا مَنْ أوهمَ نفسَه بفكرة انتظار تراث هنا أم والدتي هي التي غرستْ الفكرة في رأسي؟. هززتُ رأسي مستنكرًا. كنتُ أعرف يقيناً طيلة السنوات الماضية أنَّ تراث لن يعود. عرفتُ هذا مذ بدأتُ أسمع عن الجثث المجهولة التي كانت تظهر في بعض الصباحات في ساحة الطيران. أنا الذي أوهمتُ نفسي بهذا كلّه وليستْ والدتي.
- لا تقسُ على نفسكَ.
قالها أحدهم وهو يربّتُ على كتفي بحنانٍ. التفتُ لأعرف مَن هو. إنَّه هو هذه المرّة. تراث. أنا متأكدٌ من هذا.
ابتسمَ بودٍّ وهو ينفثُ دخان سيكارته وقال بصوتٍ هادئ:
- أنا هنا يا صديقي، لم أغادركَ يومًا، فلا تقسو على نفسِكَ.