إشـــــارة حمــــراء

لمى سلمان

 شوووف. ذااك هو ابني، عوف إيدي بعد أمك. عوفني خلي الحك عليه.

هرولتْ أم سعد لتلحق بابنها. عيناها تلاحقانه. تخشى أنْ يتوه منها كما لو كان ابن سنتين. كادت أنْ تصل إليه لولا ذلك الغريب الذي اعترض طريقها وسط الشارع فارتبكتْ. التفّتْ عباءتها حول ساقيها. تعثّرتْ وسقطتْ.

” ابن الحلال منين طلعتلي؟.. وخر دشووو”

انطلقتْ أصوات المنبّهات مطوّلًا. سائق إحدى السيارات ضغط الفرامل بقوّةٍ ليكبح جماح المحرّك ويتفادى دهسها. فقد السيطرة على السيارة التي التفّتْ حول نفسها في المكان قبل أنْ تصطدم بالجزرة الوسطية وتتوقف.

نفضتْ أم سعد عباءتها ووضعتها على رآسها غير مباليةٍ للإرباك الذي أحدثته في الشارع.  تلمّستْ جيبها الصغير بلطفٍ وكأنّها تتحسّس شيئًا ثمينًا. صُرّةً صغيرةً عقدتْ أطرافها مرتين بعد أنْ دسّت بداخلها بضع حباتٍ من “كليجة أم التمر”. كانت تلك الحبّات هي حصة سعد من كليجة العيد.

– اسبعطعش عيد مرّنْ وسعد غايب.  قالت أم سعد محدّثةً شبحًا لا يراه غيرها.

مو مهم حتى لو مرّنْ مية عيد. سهم سعودي محفوظ.

تفاجأت أم سعد بعد أنْ هدأتْ بمظهر ذلك الغريب. حدّقتْ به بخوفٍ واندهاشٍ. كان جسمه ضخمًا بعضلاتٍ بارزةٍ كآن صاحبها نحتها نحتًا دقيقًا بتردّده طويلًا على صالات ألعاب كمال الأجسام. وجهه المتغضّن لا يتناسب وتلك العضلات المنحوتة. كان شكله غريبًا. عينان دائريتان تلمعان كمصباحين وفمٌ تختفي شفتاه الغليظة خلف شاربٍ كثّ ولحيةٍ طويلةٍ يكاد طولها أنْ يساوي طول خصلات شعره الفضية التي تدلّتْ على كتفيه. 

التفتَ نحوها ببطءٍ ونظر إليها بحدّةٍ وثباتٍ. اتسع فمه وتحركت شفتاه فانبعث صوتٌ قويٌ هادرٌ يشبه دمدمة الرعد في السماء قبل ظهور البرق.

لم يخفها صوته. أجابته دون تفكيرٍ:

حاولتْ أم سعد أنْ تنهي هذه المحادثة سريعًا. كانت تريد أنْ تلحق بسعد. عليها أنْ تصل إلى الجانب الآخر من الشارع لكنّ هذا العملاق يعترض طريقها.

لم يجب الرجل الضخم وظلّ يتأمّلها بنظراتٍ فاحصةٍ وكأنّه لم يسمعْ ما قالته.

استدركتْ أم سعد. خطرَ لها أنَّ عملاقًا كهذا لابدَّ أنْ يمتلك قدراتٍ خارقةً. فكّرتْ إنَّ الأمر يستحق المحاولة فربّما تمكّن هذا الغريب من فعل ما فشل الجميع في فعله..

فهم الغريب أنّها على وشك أنْ تطلب منه شيئًا. نظر إليها. كان من الواضح أنّه ينصت أكثر ممّا يتكلم:

سحبتْ أم سعد شهيقًا ملأ رئتيها، وبصوتٍ خالطته العبرة قالت وهي تضرب صدرها بكفّها الأيمن:

لم يُبدِ الغريب أيّ ردّ فعلٍ. بدا أنّه يفكّر. رأسه مطرقٌ وأصابعه تداعب خصلات لحيته

نظر إليها بعطف، وفضحتْ ملامح وجهه رغبته بالمماطلة:

حان الوقت يبدو أنَّ أم سعد باتت جاهزةً. قال الغريب يحدّث نفسه.

 مرّ الكثيرون في هذا التقاطع لكنّه لم يظفر بما يبتغيه منهم. لم يكن مسموحا له اعتراضهم. الفرصة سانحة الآن لينقضّ على فريسته.

أزاح الغريب قطعة قماشٍ عن مخلوقٍ عجيبٍ أشدّ غرابةً منّه كان يحمله على ذراعه. دقّقتْ أم سعد النظر في هيئة ذلك المخلوق وهالها ما رأت.

” عوذه!! يا ستّار. ربي دخيلك” قالت من دون أنْ تلتفتَ لردّ فعل الغريب.

 طوال سنوات عمرها السبعين لم ترَ مخلوقًا بهذا الشكل أقدامه أقدام رجلٍ وساقيه ساقي طفلٍ صغيرٍ، أمّا كفّاه فيبدوان ككفي فتاةٍ شابةٍ، والرأس يا إلهي.. كم هو مخيفٌ كأنّه رأس شيخٍ كبيرٍ.

أُخذ كلبي.. أُخذ روحي أُخذ عمري أُخذ كلشي محالل وماهوب بس توديني يم سعّودي..

لا زال صدى العبارة يتردّد في الأجواء رغم لغط سائقي السيارات ورجل المرور الذين هرعوا نحوها. هي لحظةٌ وأخرى حتى عمّ الهدوء. كان الجميع يتحرّك ببطءٍ شديدٍ ويتحدّثون دون صوتٍ. يتجمعون هناك وسط الشارع حول جثة امرأةٍ سبعينيةٍ وحيدة دهستها سيارةٌ فلم تطل المكوث في هذا العالم ففاضتْ روحها بعد دقائق متأثرةً بإصابةٍ قاتلةٍ في الجهة الخلفية للرأس، أسفل الجمجمة. هذا ما كتبه رجل الإسعاف في تقريره. فيما جلس رجل المرور في نهاية اليوم ليحدّث زملاءه عن العجوز السبعينية التي أسلمت الرّوح بين يديه وهي تبتسم له وتطلب منه أنْ يبقيها مع سعد الذي عثرتْ عليه أخيرًا.

Exit mobile version