بيــــن بغــــــداد والمقـــــــال

حراء موسى

يوجد هواءٌ وشمسٌ، توجد غيومٌ. هناك في الأعلى سماءٌ زرقاء وربّما توجد وراءها أغنياتٌ، ربّما توجد أصواتٌ أفضل.. وباختصارٍ يوجد أملٌ. يوجد أملٌ لنا، ضد غمّنا

من رواية بيدرو بارامو    

بغداد 2007.

الأرض زلقةٌ، رائحة عفنٍ تفوح من الرصيف ونشوةٌ ما تسري في صدره بين خُطوةٍ وأخرى. يقبض على مقاله المنشود بيده. يبتسم للجادّة الفارغة التي يمُرّ بها، للأبواب الموزعة على الضفتين وللظلمة التي تُغلّف المشهد. قد أوجد للتو كلماتٍ تُشبه الحقيقة ويا لسعادته. وها هي بين يديه، طفلته الجميلة، تلك الأسطر ذات المعنى هي كُلّ أسبابه. ولا شيء بإمكانه أنْ يُفسد سعادته الآن.

مثل رجلٍ أنجب نبيًا، يمشي فرحًا على الرصيف. يقفز بين برك المطر المتناثرة هُنا وهناك. كان كاتبًا، وقد انتهى للتو من كتابة الحقيقة.

يفتح الورقة، يقرأ سطرها الأول. يضحك. يتوقف عن السير ليطويها، يقبّلها ثُم يضعها في جيب سترته.

من المقال:

الحرية ليس مجرد مفهومٍ فلسفي، بل هي حاجةٌ أساسيةٌ لاستمرار الحياة. مع ذلك فهي لعبةٌ محفوفةٌ بالمخاطر؛ قنبلةٌ موقوتةٌ قد تنفجر في أيّ لحظةٍ بوجه مَنْ يطالب بها.

بغداد 2007:

“وغدًا؟” يسأل الكاتبُ نفسَه. ماذا سيكتبُ لغده؟

سوف يصنع تُحفةً أخرى لا شكّ في ذلك. ربّما يكتب مقالًا طويلًا، أو لعلّه يؤلّف كتابًا يحشر الأفكار في دواليبه ويفكّك الحقائق. سوف يكتُب عن كُلّ شيءٍ، سيُعلن الحرب على الصّمت ويكفُّ عن الخضوع.

ما أسوأ ما يُمكن أنْ يحدُث؟

 يُقتَل؟

ليكن. سيكون شهيدًا للكلمة.

 ما أحلى تخيّل ذلك.

قطةٌ صغيرةٌ تظهر في المدى، تتمسّح في الحائط. والطريق يقصر مع كُلّ خطوةٍ. هناك خلف أحد الأبواب تنتظر أمٌّ على قلقٍ. أمٌ سيقرأ عليها مقالةً، ستُمعنُ في ورقته طويلًا، وتدعو له بعد أنْ تتذكر أنّها لا تُجيد القراءة.

ويمضي الكاتب في طريقه..

أمام الباب المغلق أخرج مفتاحه. كان يُدير قلب القفل حين أطبقتْ كفٌّ على فمه، ويدان غريبتان أوثقتا يديه من الخلف. كان يتلوّى مثل سمكةٍ صيدتْ للتو، ورجلان يجرّانه نحو شاحنةٍ في آخر الشارع.

من المقال.

الحرية ليست رفاهيةً، بل هي أساس تطور أيّ مجتمعٍ.. إنّها بمثابة المساحة التي تُترَك للفرد ليتنفس، ليُبدع دون قيودٍ.

أعلى النموذج

بغداد2007.

مُلقى مثل حيوانٍ في صندوق الشاحنة، مُقيَّد اليدين والقدمين، وكيسٌ أسود يُغطي رأسه. رجلٌ يجلس قُرب الباب يركل الكاتب بين فينةٍ وأخرى كلّما ازداد مقاومةً. “هل سقط المقال من جيبه؟” مصيبةٌ لو حدث ذلك حقًا.

سقط المقال في مكانٍ ما في الشارع، وربّما في بِركةٍ. عليه أنْ يتحرّر الآن من هذه القيود ويمضي إليه مسرعًا. ليس على المقال أنْ يبقى الليل وحيدًا. ربّما تبرُد الكلمات.

“خائن” يصرخ الرجل قُرب الباب، ضاربًا وجه الكاتب بقبضته.

“لا خيانة أكبر من ترك الكلمات تطفو في البركة” يقول الكاتب في نفسه.

“تعتقد بأنّنا لن نجدك؟.. لا صباح لك.. يا ابن..” يصرخ الرجل مرّةً ثانيةً.

“سوف أقدّم نفسي قربانًا لو أحضرتم لي مقالي” يقول الكاتب في نفسه ويبدأ بالبكاء.

تتلاطم الأفكار في عقله بشكلٍ فوضوي. تتناوب اللحظات والسيناريوهات في مخيلته. إلى أين يمضي؟ وكيف يُفلتُ من تلك القيود؟ هل هنالك فرصة للنجاة الليلة؟ هل بإمكانه العودة إلى والدته؟ هل يا تُرى سيجد مقاله؟

من المقال:

الحرية وحدها غير كافيةٍ لإتمام نهضةٍ أو تغييرٍ إيجابي، إنَّ مواصلة الجهود والإيمان بالقضية يؤدّيان دورًا حاسمًا في تجاوز العقبات والتحدّيات للوصول إلى الاستقرار والتغيير المطلوب في المجتمع.

بغداد2007.

في غُرفةٍ ما تتلاشى الأضواء وتظهر بشكلٍ متقطعٍ، مثلما قد تلاشى كلّ من الزمان والمكان. يقترب رجلٌ من الكاتب، ينزع الغطاء عن رأسه.

“أنتَ الذي تكتُب هذا؟” سأل الرجُلُ مُشيرًا إلى كومة صحفٍ قرب الكاتب.

“نعم.. تلك مقالاتي” يقول الكاتب.

“وما الذي أردته منها؟” يقول الرجل وهو يجلس على كرسي أمام الكاتب.

“الحقيقة..”

“أوه الحقيقة.. الرجل النبيل يريد الحقيقة”. قال هذا ساخرًا ثم لكمه.

“لصالح مَنْ تعمل، لمَنْ تروّج؟”

“أقسم لك لا أعمل لأيّ أحدٍ.. هل بإمكانك أنْ تحضر مقالـــ…” كان يتحدث عندما أسقط الرجل الكاتب أرضًا وبدأ يركل به.

“لمَنْ تعمل؟، تحدّث.. لماذا تُعذب نفسك؟”

يعود الكاتب للنشيج: ” لا أكتب لأحدٍ.. أقسم لكَ..”

“إذن تحاول إنشاء حركةٍ جديدةٍ..”

جاء رجلٌ آخر وبدأ بضرب الكاتب. واستمر الرجلان يحاولان انتزاع الاعترافات منه.

من المقال.

إنَّ سبب فشل أغلب محاولات التغيير هو غياب التوافق والتضامن ما بين الأطراف المختلفة إذ يتبنّى الفرد قضيته الذاتية بدلًا من المصلحة العامة للشعب ممّا يؤدي إلى تعزيز الانقسامات الاجتماعية وازدياد الصراعات الداخلية.

بغداد2007:

محاصرٌ في مكانٍ لا يعرفه. كان الكاتب يهذي:

سوف أكتبك مرةً أخرى، سوف أحييك، وسوف تُنشر وتؤدّي كلمتك. صغيري، طفلي وحيدٌ في الشارع.. أنا آسف.. أنا آسف.

دخل الرجل مرةً أخرى، أقترب منه: “هذه فرصتك الأخيرة.. لصالح مَنْ تعمل؟”

“الكلمات باردةٌ.. تنتظر كاتبها”

“هكذا إذن”. أخرج الرجل مسدسًا. سحب زناده وأطلق على فؤاد الكاتب. فتحطّم إلى أحرفٍ.

Exit mobile version