أحمد نجم
حتى مع الظروف الصعبة التي ملأت العقود الأخيرة من تاريخ العراق وسلبت من مدنه تنوعها ومن مجتمعه تعدده، حافظ الوجود الصابئي على نفسه في مدينة بعقوبة، وإن كان وجودًا رمزيًا ببضعة أفراد وأنصاف عوائل.
تراجع الوجود الصابئي
فيما مضى، كانت العوائل المندائية التي تسكن بعقوبة تُقدَّر بنحو 300 عائلة، لكن الصراع الطائفي الذي اندلع بعد عام 2003 لم يُبقِ منهم سوى خمس عوائل فقط، معظمها أنصاف عوائل. يندر أن تجد عائلة دون أن يكون بعض أفرادها مهاجرين إلى أوروبا، أو أمريكا، أو أستراليا.
سلام عريبي: “أنا مستحيل أطلع”
سلام عريبي، الملقب بـ “أبو عادل”، واحد من هؤلاء الذين انقسمت عوائلهم بين دول مختلفة، لكنه مصرّ على البقاء في بعقوبة برفقة ابنتيه. يقول عريبي: “أنا مستحيل أطلع لأن هنا متعود على أصدقائي ومدينتي وعملي”، وهو منشغل داخل ورشته لتصليح الذهب في سوق بعقوبة.
عريبي البالغ من العمر 70 عامًا هو أكبر صابئة بعقوبة حاليًا. حتى خلال ذروة الصراع الطائفي عامي 2006 و2007، لم يترك المدينة. شفعت له علاقاته الاجتماعية وسمعته الطيبة لدى المجتمع المحلي في حماية أسرته من نفوذ المتطرفين الذين سيطروا على معظم أحياء بعقوبة آنذاك. يضيف عريبي: “هاي الفكرة شايلها من دماغي”، في إشارة إلى فرص الهجرة التي رفضها مرارًا.
لميعة الناشئ: تجربة الهجرة وزواج عابر للأديان
أما لميعة الناشئ، فقد اضطرت للهجرة إلى أستراليا برفقة عائلتها عام 2005 بعد تعرضها لتهديدات ومضايقات. تقول: “هددنا أشخاص مجهولون ومنعوا دخول ابنتي لنادي الشطرنج لأنه حرام بنظرهم، رغم كونها لاعبة المنتخب الوطني للشطرنج.”
لميعة تحمل تجربة فريدة بزواجها العابر للأديان عام 1978 من شخص مسلم، وهو زواج لم يحظَ بمباركة عوائل الطرفين رغم تدخل شخصيات بارزة. تقول: “في السبعينيات، عزز الانفتاح السياسي العلاقات بين المكونات، لكن الظروف اللاحقة وهجرة معظم المندائيين جعلت وجودهم كمكون اجتماعي في بعقوبة آيلاً للزوال.”
وتذكر الناشئ أن محافظة ديالى كانت من المناطق التي عاشت فيها الطائفة المندائية لفترات طويلة، بفضل الأنهار مثل نهر ديالى، الذي يُعد عنصرًا مهمًا في طقوسهم الدينية المتعلقة بالتعميد.
صناعة الذهب: إرث مندائي عريق
لا يُعرف تاريخ دقيق لبدء وجود الصابئة في بعقوبة، لكن معظم العوائل التي تحدثنا إليها انتقلت إلى المدينة قبل عقود قادمة من محافظات أخرى. عائلة الناشئ، ذات الأصل البغدادي، انتقلت إلى بعقوبة في السبعينيات، بينما استقرت عائلة عريبي في ديالى عام 1955، وكانت صياغة الذهب مهنتهم الوحيدة.
يقول عريبي: “صياغة الذهب مهنة أجدادنا المندائيين منذ زمن الآراميين، عندما كانوا يسكنون القدس قبل انتقالهم إلى جنوب العراق.”
حاليًا، بقي ثلاثة صاغة فقط من الصابئة يعملون في سوق الذهب في بعقوبة، بعد أن كانوا بالعشرات. تحول العديد منهم إلى العمل في ترميم قطع الذهب بسبب هيمنة التقنيات الحديثة على السوق.
الطقوس الدينية: ذاكرة تتلاشى
تتذكر هالة، ابنة عريبي الكبرى، مشاهد الطفولة للطقوس الدينية التي كانت تُقام على ضفاف نهر ديالى. تقول: “هسه صار الموضوع غريب والناس تستغرب من هيچ طقوس”.
في السابق، كانت الطقوس تُقام في “مندي الصابئة” غرب بعقوبة، لكنه أغلق لاحقًا بسبب الأحداث الطائفية. وعلى الرغم من قرار حكومي حديث بنقل ملكية المعبد والمقبرة إلى ديوان أوقاف الديانات المسيحية والإيزيدية والصابئية، إلا أن النشاط الديني في المدينة ما زال محدودًا.
أسباب الهجرة المستمرة
يرى الناشط المندائي ساري الصابري أن استمرار الهجرة يعود إلى سوء الأوضاع الأمنية والاقتصادية، وأحيانًا التهديدات التي يتلقاها أفراد الطائفة، بالإضافة إلى الاستيلاء على أملاكهم.
بحسب الشيخ ستار الحلو، زعيم الطائفة المندائية، انخفض عدد المندائيين في العراق إلى ما بين 15 و20 ألفًا، بعد أن كان 75 ألفًا سابقًا.
أهمية الوجود الصابئي
يؤكد الحقوقي صلاح مهدي، مدير مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في ديالى، أن الصابئة المندائيين كانوا مكونًا مهمًا في المحافظة ولعبوا دورًا بارزًا في صياغة الذهب، بالإضافة إلى كونهم جزءًا من النسيج الاجتماعي. لكنه يشير إلى أن الأحداث التي أعقبت سيطرة تنظيم القاعدة وداعش على بعض مناطق ديالى أثرت على وجودهم بشكل كبير.
ورغم التحديات، يرى الصابئة أن الحفاظ على وجودهم في العراق هو مهمة تاريخية تتجاوز الأرقام، لأن تاريخهم العريق يرتبط بهوية هذه الأرض.
وبالنسبة للطوائف ذات التاريخ العريق، فإن الحفاظ على وجودها مهمة أساسية لهوية هذه الأرض التي عاشوا عليها آلاف السنين بجوار جداول المياه، بغض النظر عن أعداد من تبقى ومن هاجر، فالطوائف من هذا النوع حجمها أكبر من أن يُقاس بالكميات والأعداد.
هذه المادة أنتجت بدعم من برنامج Qarib media الممول من CFI و AFD