كنيسة بعقوبة الوحيدة بلا أجراس ولا قداس في أعياد الميلاد

أحمد نجم و علي فاضل

عيد ميلاد آخر يمر على مسيحيي بعقوبة من دون أن تحتضن كنيسة مدينتهم قداسًا منذ آخر قداس أُقيم فيها قبل نحو 20 عامًا، فالعدد القليل جدًا المتبقي من الأسر المسيحية البعقوبية يُفضل أداء طقوس أعياد ميلاد السيد المسيح بجوار أقاربهم الذين هاجروا المدينة وتوزعوا في الشتات، بعضهم داخل العراق في الموصل وكردستان، والبعض الآخر خارج البلد.

كنيسة بلا أجراس

يعمل الأخوان رافد ورامي مع والدهما عامر جميل على رعاية الكنيسة الوحيدة في بعقوبة، والتي أُسست سنة 1964 وتقع قرب مبنى البلدية، لكن سكنهم جوار الكنيسة وقيامهم بمهام الرعاية لم يعد ذا جدوى؛ لأن ما تبقى من مسيحيي بعقوبة لا يصلون إلى الكنيسة إلا نادرًا كما يقول رامي.

وديوان الوقف المسيحي لم يعد يُرسل كاهنًا لإقامة القداس منذ اندلاع الصراع الطائفي بعد عام 2003 وإغلاق الكنيسة عام 2005.

اول قداس أقيم بعد اعادة افتتاح كنيسة ام المشورة الصالحة عام ٢٠١٩ – الصورة متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي

وعندما أُعيد ترميم الكنيسة بجهود ناشطين ومنظمات مجتمع مدني وافتتحت مجددًا عام 2018، كان جميع المسيحيين باستثناء نحو 7 عوائل قد غادروا المدينة واستقروا خارجها. ويفضل هؤلاء تأدية الطقوس في العاصمة بغداد أو الموصل أو كردستان.

ويشير رامي إلى أن الكنيسة مغلقة غالب الوقت، ومن النادر أن يطلب أحد المسيحيين زيارتها، أما في أعياد الميلاد، فيزورنا بعض المسؤولين فقط.

عوائل قليلة

ثامر يشوع، أحد آخر المسيحيين هنا، يقول بأن حفل افتتاح الكنيسة بعد تأهيلها حضره أربعة مسيحيين فقط، ولم يحضر أحد منهم لاحقًا إلا نادرًا.

الأب مارتن وهو يتلو ترانيم اول قداس بعد اعادة أفتتاح كنيسة ام المشورة الصالحة عام ٢٠١٩ \ الصورة متداولة في وسائل التواصل الأجتماعي

ويُقدر عدد المسيحيين في المدينة قبل 2003 بأكثر من 100 عائلة، فيما الآن أقل من 7 عوائل صغيرة، معظمها عوائل مقسمة؛ بعض أفرادها هاجر والبعض الآخر لا يزال في المدينة.

يشارك يشوع في احتفالات الميلاد هذا العام في قضاء الحمدانية بمحافظة نينوى بجوار أشقائه وأقاربه الذين تركوا المدينة، أما هو فمشروع الهجرة حاضر في ذهنه ويخطط له بعد إحالته للتقاعد الوظيفي.

السيد ثامر يشوع يحتفل بعيد الميلاد مع اقاربه وعائلته في قضاء الحمدانية – نينوى \ الصورة حصلنا عليها منه

وينظر بتشاؤم لمستقبل الوجود المسيحي في ديالى: “الجيل الشاب لا يرتبط بذكريات إيجابية هنا ويشعر بالاغتراب، والباقون في بعقوبة معظمهم من كبار السن أو غير القادرين ماديًا على الهجرة.”

الحنين للتعايش

الذكريات لم تفارق المهاجرين من مسيحيي بعقوبة حتى اللحظة، وتركت ألمًا عميقًا في قلوبهم كما يقول الأستاذ حنا يشوع، المدرس المتقاعد الذي يعيش حاليًا في الحمدانية. يقول يشوع: “كان الاحتفال بأعياد الميلاد يتم صباحًا في كنيسة أم المشورة الصالحة، ثم نعود لبيوتنا لتناول الإفطار، ثم نزور أقاربنا.”

الاستاذ حنا يشوع في السبعينيات وهو يبيع الكبة في شوارع بعقوبة

وما يزيد من ألم حنا يشوع ليس حنينه لمدينته الأم فقط، بل للتعايش الديني أيضًا: “كانت كنيستي جامعة لكل الأطياف السريانية والأرثوذكسية والكلدانية، وليس كما يحصل الآن لكل طائفة كنيسة”.

ولم يعد حنا يشوع، وهو بعمر 70 عامًا، يأمل أن يحتفل في كنيسة بعقوبة مجددًا: “أعاني من أمراض كثيرة ولا أستطيع التنقل، كما أن الكنيسة بلا كاهن وبلا رعية.”

حنا يشوع محتفلاً بالميلاد مع حفيدتيه

ذكريات أبو ماريا: حنين إلى بعقوبة بعد ثلاثة عقود من الغياب

يستذكر أبو ماريا، الذي يسكن ضواحي العاصمة السويدية، بعضًا من ذكرياته عن أزقة مدينة بعقوبة بعد أن غادرها قبل أكثر من ثلاثة عقود. يقول: “كنت أسكن بين أحلى الناس”. ويؤكد أن ظروف الحصار والأوضاع القاهرة في تلك الفترة دفعته هو وعدد من الأسر المسيحية إلى مغادرة العراق صوب القارة الأوروبية. انتشرت الأسر المسيحية في تسع دول حسب معلوماته، لافتًا إلى أنه يستذكر بحنين بالغ ذكرياته مع أهالي بعقوبة من كل الأطياف من العرب والكرد والتركمان من السنة والشيعة. ويضيف: “كانت الحالة المجتمعية وحالة الإيثار والتعاطي مع المآتم والزفاف بروح مجتمعية تعكس طيبة هذا المجتمع وأصالته.”

ورغم السنوات الطويلة التي قضاها بعيدًا عن بعقوبة، لا يزال أبو ماريا يحلم بالعودة إليها، قائلاً: “أتمنى أن أختتم حياتي في المدينة التي أحببتها.”

مريم: غصة الفقد والحنين

من بعقوبة، تسرد مريم وهي تغالب دموعها شعور الوحدة في الأعياد. تقول: “هذا العام نفتقد الأهل، خاصة أخي المرحوم. أتمنى أن يعود الزمن إلى الوراء، إلى الأيام التي كنا نجتمع فيها جميعًا في هذه المدينة.”

رغم هجرة معظم العائلات المسيحية، تواصل مريم وزوجها رافد وعائلته الاهتمام بالكنيسة وتحمل مسؤولياتها. لكن الأعياد باتت مناسبة حزينة، إذ لم تعد تجمع العائلات كما في الماضي، بل أصبحت رمزًا للوحدة والاغتراب.

لم نعرف يوماً معنى التفرقة”

منال فهمي عزيز، وهي تدريسية في معهد بعقوبة التقني، تقول: “عشنا طوال حياتنا بسلام دون أن نعرف معنى التفرقة. ديننا يعلمنا أن نحب الجميع دون تمييز، وهو ما تعلمناه من السيد المسيح.”

الست منال فهمي في منزلها – الصورة التقطت من قبل مروان الفجر اثناء عمل مقابلة معها \ ارشيف شرق العراق

وتضيف منال: “رغم كل الظروف الصعبة التي مررنا بها، كان جيراننا بمثابة أهلنا وناسنا، أحاطونا بالرعاية والدعم عندما غاب الأهل والأقارب.”

جهود محلية لدعم المسيحيين في ديالى

رغم كل التحديات، هناك جهود محلية لدعم المسيحيين وتشجيعهم على العودة. محافظ ديالى، عدنان الشمري، يقول بعد زيارته كنيسة “أم المشورة الصالحة” وتهنئة من تبقى من المسيحيين في بعقوبة: “نشجع العائلات المسيحية التي غادرت المحافظة على العودة، ونؤكد التزام الحكومة المحلية بدعمهم وتوفير الاستقرار اللازم.”

الصورة لمحافظ ديالى السيد عدنان الشمري اثناء زيارته لكنيسة ام المشورة الصالحة لتهنئة المسيحيين في بعقوبة ويظهر في الصورة وهو يوقد شمعة وبجانبه السيد عامر جميل المسؤول عن رعاية الكنيسة – الصورة من الصفحة الرسمية لـ الشمري

كما أشار رئيس مجلس محافظة ديالى، عمر الكروي، إلى أن وجود كنيسة “أم المشورة الصالحة” يعكس تنوع المجتمع، مؤكدًا أهمية تعزيز هذا التنوع والمحافظة عليه.

وزار مدير شرطة ديالى، اللواء محمد كاظم العطية، كنيسة “أم المشورة الصالحة” صبيحة العيد لتقديم التهاني للعوائل المسيحية في أعياد الميلاد، والتأكيد على أنهم جزء من مجتمع المحافظة. كما وجه رسالة لهم بأن القوة الأمنية داعمة لكل أطياف المحافظة دون استثناء، ومنهم المسيحيون، مع الإشارة إلى دعوة لعودة من غادر المحافظة، خاصةً وأن الأجواء الأمنية مستقرة بشكل كبير.

قائد شرطة ديالى اللواء الركن محمد كاظم عطية يظهر في الصورة وهو يوقد شمعة اثناء زيارته كنيسة ام المشورة الصالحة في بعقوبة صبيحة العيد – الصورة اعلام قيادة شرطة ديالى

وتشير الإحصائيات إلى تراجع عدد المسيحيين في العراق إلى أقل من 250 ألف شخص بعد أن كان يزيد عن مليون ونصف قبل 2003. ويقول الكاردينال ساكو، بطريرك الكنيسة الكلدانية في العراق والعالم، في رسالة منشورة العام الماضي، إن نسبة المسيحيين في العراق تراجعت من 4% إلى 1% نتيجة أعمال العنف التي أودت بحياة نحو 1200 مواطن مسيحي.

الصور التقطت بعدسة الصحفي أحمد نجم

أنتجت هذه المادة بدعم من برنامج Qarib media الممول من CFI & AFD

Exit mobile version