مع بداية فصل الشتاء، يتهافت الناس إلى ورشات تصليح المدافئ، في مشهد يعكس تأثير أزمة الكهرباء المستمرة في العراق. فرغم انتشار وسائل التدفئة الحديثة، اضطر المواطنون للعودة إلى المدافئ النفطية التقليدية، المعروفة باللهجة العراقية بـ “الصوبات”، مع انخفاض ساعات تجهيز الكهرباء الوطني إلى 5 أو 6 ساعات يومياً.
الغاز الإيراني وأزمة الكهرباء
تشير وزارة الكهرباء العراقية عبر موقعها الرسمي إلى أن “توقف إمدادات الغاز المورد الإيراني بالكامل للصيانة، تسبب في فقدان المنظومة الكهربائية طاقة تعادل 5500 ميغاواط.” ورغم انتهاء مدة الصيانة المفترضة، لا تزال الأزمة قائمة، خصوصاً في محافظة ديالى، التي تشهد انقطاعات متكررة ومتقطعة ضمن الجدول المخصص للتجهيز.
مدير فرع كهرباء ديالى، المهندس مقداد الجوراني، أوضح أن “حصة المحافظة من الطاقة الإنتاجية تبلغ 550 ميغاواط فقط، وهي غير كافية لتشغيل جدول ساعتين تجهيز مقابل ساعتين إطفاء.” وأكد أن المحافظة تحتاج إلى ضعف هذه الكمية لتحقيق استقرار نسبي في تجهيز الكهرباء.
“المدافئ النفطية: البديل التقليدي لمواجهة برد الشتاء”.
في ظل البرد القارس والانقطاعات المستمرة، عاد العراقيون لاستخدام المدافئ النفطية لأغراض التدفئة وتسخين المياه. ورشات تصليح المدافئ أصبحت مكتظة بالمواطنين، مثل ورشة الحاج محمد “أبو مصطفى”.
يقف الرجل الستيني أمام طاولة مستطيلة ملطخة ببقع سوداء، ناتجة عن بقايا زيت المدافئ. تتوزع عليها أدواته، حيث يفضل أن يعمل واقفًا قائلاً: “أسيطر على الصوبة أكثر”. يمسك بيديه إحدى المدافئ التي تحتاج إلى استبدال الفتيل، داخل ورشته الصغيرة بسوق المفرق قرب جامع الزيتوني غرب بعقوبة. الجميع هناك يعرفه بلقب “مصلح الصوبات”.
أبو مصطفى (62 عامًا) من منطقة حي المعلمين في بعقوبة، تخرج من مركز التدريب قسم الميكانيك سنة 1980. يقول: “في وقت تخرجي كانت الظروف المعيشية صعبة، والرواتب التي تُمنح للموظفين زهيدة، لا تكفي حتى احتياجات المنزل. وكان حينذاك صاحب المهنة أفضل حالًا من الموظف. لذلك، لم أفكر بالوظيفة، وتوجهت إلى سوق العمل وبدأت أعمل وأطور مهاراتي حتى أصبحت محترفًا فيها، واستطعت من خلالها الاعتماد على نفسي وتوفير معيشة جيدة لي ولعائلتي”.
يعمل أبو مصطفى في تصليح وصيانة مختلف أنواع الصوبات في محله الذي أنشأه في بداية الثمانينيات. رغم قساوة ظروف الحصار حينها، إلا أنه وبمساعدة زوجته استطاع الادخار لتوسيع عمله.
يصر أبو مصطفى على ألا يترك هذه المهنة مهما كان تعبها ومردودها المادي. يشهد محله هذه الأيام ازدحامًا كبيرًا من المواطنين الراغبين في تصليح المدافئ، نتيجة موجات البرد القارس وتدهور خدمة الكهرباء الوطنية.
يعمل معه في المحل ابنه الأكبر مصطفى، الذي اختار أن يورثه مهنته كي لا تندثر من بعده. يقول أبو مصطفى: “أعمل في هذه المهنة ما يقارب النصف قرن. أحب مهنتي، وأنا على استعداد لتعليمها لأي شخص يرغب في العمل فيها”.
“ما بين الحديث والقديم لا يستغني العراقيون عن الصوبات”
“رغم انتشار أجهزة التدفئة الكهربائية الحديثة، لا يمكن للعراقيين الاستغناء عن المدافئ النفطية. وحتى إذا فكروا في ذلك، سيضطرون للعودة إليها مجبرين، كما هو الحال الآن مع شتاء قاسٍ وأزمة حادة في تجهيز الكهرباء.”، يقول أبو رويدة علي الأوسي، أحد الزبائن، وهو ينتظر اكتمال صيانة مدفأته.
بعد أن انتهى أبو مصطفى من إصلاح مدفأة أبو رويدة وتبديل فتيلتها، سلّمها له قائلاً: “في هذا الوقت، الصوبة تحتاج كل سنة لتبديل فتيلتها، ليس كالسابق. كانت الفتيلة تبقى ثلاث سنوات وربما خمسًا، لأن أغلب النفط الآن مغشوش ومخلوط بالماء، مما يسبب مشاكل متعددة للمدافئ، منها تلف الفتيل بسرعة”.
ويؤكد أبو مصطفى أن تصليح وصيانة الصوبات حاليًا أكثر تعقيدًا من السابق، بسبب تعدد النوعيات واختلاف قطع الغيار الخاصة بها. في السابق، كانت صوبة “علاء الدين” الأشهر في البيوت العراقية بفضل قياسات فتائلها الثابتة وقطع غيارها المتوفرة، لكنها الآن شبه منقرضة.
ويضيف: “أحيانًا تصلني صوبات من ماركات قديمة لم تعد قطع غيارها متوفرة في السوق. حينها تظهر مهارة الحرفي القديم المتمرس في مهنته، حيث أبدأ بتصنيع قطع غيار لها يدويًا ‘تصنيع محلي”.
ويعلو من جانب الباب صوت أبو ماجد ضاحكًا، وهو أحد الزبائن القدماء، والذي لكثرة تردده على المحل أصبح صديقًا لأبو مصطفى: “ما شاء الله، لا يصعب ولا يعصى عليه شيء”.
وعند التجول في محل أبو مصطفى، سرعان ما تلاحظ أنه يحوي جميع قطع الغيار والمعدات اللازمة لإعادة المدفأة إلى العمل وكأنها جديدة، من زجاج حراري بأشكال وقياسات مختلفة، وفتائل أصلية بقياسات متعددة ذات منشأ كوري أو ياباني. يسافر ابنه مصطفى إلى بغداد خصيصًا لشراء هذه المستلزمات والمعدات من تجار ثقة اعتاد والده التعامل معهم منذ سنوات طويلة.
ويؤكد أبو مصطفى أن الخبرة ضرورية لتمييز القطع الأصلية عن المقلدة، وللعمل يدويًا وإيجاد حلول عند عدم توفر قطع غيار للمدفأة في السوق. ومن المهم أن يميز المصلح بين فتائل وزجاج الصوبات الأصلية والمستوردة من دول مجاورة بمواصفات رديئة قد لا تدوم مع المدفأة لموسم شتاء كامل عند العائلة في حال استخدامها.
وعند سؤالنا العم أبو مصطفى إن كان يجد العمل في هذه المهنة مرهقًا في هذا السن، لا سيما أنها مهنة تحتاج إلى الدقة والتركيز، أجاب: “عمي، الشخص اللي مثلي إذا قعد بالبيت يتمرض. أنا متعود على الشغل. جيلنا تربى على تحمل المسؤولية والعمل من الصغر، تعودنا على العمل والحركة، وبعدها التحقنا بالعسكرية. “العمل يجدد نشاطي، وصحتي”.
ويختتم حديثه برسالة للشباب: “أتمنى من الجيل الجديد، رغم مواكبته للحداثة، أن يتعلم مهنًا تخدم المجتمع وتلبي احتياجاته، وأن يتحلى بروح المسؤولية مع إتقان العمل والإخلاص والأمانة”.
أنتجت هذه المادة بدعم من برنامج Qarib media الممول من CFI & AFD