آفة زراعية تهدد الهوية الثقافية في ديالى… هل يمكنك تخيل ديالى بلا برتقال؟
ذبابة قاتلة تهدد الحمضيات.. حصاد مبكر لإنقاذ برتقال ديالى
استبرق الزبيدي
ديالى – شرق العراق
بدأ موسم حصاد الحمضيات في قرى الهويدر وخرنابات في وقت مبكر هذا العام نتيجة تفاقم خطر انتشار ذبابة البحر الأبيض المتوسط، إحدى أخطر الآفات الزراعية التي تصيب الفواكه، مما دفع المزارعين إلى العمل في ظروف استثنائية لمحاولة تقليل حجم الخسائر المحتملة. “اضطررنا إلى قطف ثمار البرتقال وهي لا تزال خضراء”، يقول المزارع سعد داوود سلمان المهداوي، المعروف بـ “أبو صفاء”، وهو يمسك بإحدى الثمار متحسراً على الوضع الذي يهدد إنتاجهم.
ذكريات الماضي مع الآفة
أبو صفاء المهداوي، ممرض متقاعد عاد إلى الزراعة بعد تقاعده قبل ست سنوات، يتحدث بحنين عن ماضيه مع الأرض التي نشأ عليها. يعيدنا بذاكرته إلى تاريخ ظهور ذبابة البحر الأبيض المتوسط، والتي تُعرف علمياً باسم Ceratitis capitata، قائلاً: “ظهرت لأول مرة في صيف 1947 في منطقتي الهويدر وخرنابات. دخلت إلى العراق عبر الحمضيات المستوردة لصالح الجيوش البريطانية في ذلك الوقت”.
لم يكن حديث المهداوي مجرد ذكريات شخصية؛ فقد أكدتها مصادر علمية أخرى، من بينها مركز بحوث ومتحف التاريخ الطبيعي. ففي حلقة نقاشية عُقدت بالمركز تحت عنوان “ذبابة البحر الأبيض المتوسط: تاريخ ظهورها وانتشارها في العراق”، أوضح الأستاذ المساعد الدكتور عامر متعب والأستاذة المساعدة الدكتورة هناء الصفار أن دخول الآفة كان مرتبطاً بفوضى المداخل الجمركية التي كانت موجودة آنذاك، مما سمح بدخول الحمضيات المصابة وانتشار الآفة بشكل سريع.
عودة ذبابة البحر الأبيض المتوسط
وأكد الدكتور حسين فاضل الربيعي، الباحث في دائرة البحوث الزراعية وتكنولوجيا الغذاء في بغداد، أن “السبب الرئيسي لتفشي ذبابة البحر الأبيض المتوسط في العراق يعود إلى استيراد الحمضيات، سواء بصورة مشروعة أو غير مشروعة، من دول مثل سوريا ومصر والأردن، التي تعاني من انتشار واسع لهذه الآفة الحشرية”.
وأوضح أن “هذه الذبابة ظهرت مجددًا بعد القضاء التام عليها في العراق عقب أول ظهور لها عام 1947، حيث لم تُلاحظ أي إصابات لعدة عقود”.
آفة خطيرة تدمّر الحمضيات
ذبابة فاكهة البحر الأبيض المتوسط (Ceratitis capitata) تُعد من أخطر الآفات التي تصيب الحمضيات. تتكاثر بسرعة مذهلة، حيث تبدأ الحشرات الكاملة بالتزاوج خلال 4-10 أيام من ظهورها. بعد التزاوج، تنجذب الإناث إلى الثمار ذات اللون الأصفر البرتقالي، وتضع بين 300-400 بيضة تحت القشرة أو داخل اللب.
وتسبب هذه العملية ثقوبًا تسمح للبكتيريا والفطريات بالدخول، مما يؤدي إلى تغير لون الثمرة إلى الأصفر الباهت وتعفنها. كما تتغذى اليرقات على لب الثمار، تاركة مخلفاتها التي تجعل الجزء المصاب رخوًا وغير صالح للاستهلاك، مما يؤدي إلى تساقط الثمار وتلفها بالكامل.
إجراءات قانونية صارمة في السابق
في عام 1947، صدر القانون رقم (1) بعنوان “قانون إبادة ذبابة البحر الأبيض المتوسط والوقاية منها”، ونُشر في جريدة الوقائع العراقية العدد 2499 بتاريخ 27 تموز 1947. استندت مديرية الزراعة العامة إلى هذا القانون لاتخاذ تدابير صارمة شملت التفتيش عن بؤر الإصابة، رش المبيدات، منع انتقال الحمضيات خارج المناطق المصابة، وإتلاف كافة الثمار المصابة مع تعويض أصحابها. ساهمت هذه الإجراءات الحازمة في القضاء على الآفة تمامًا آنذاك.
رغم القضاء عليها في الماضي، عادت الذبابة للظهور مجددًا في 23 تشرين الثاني 2006 في قرية أبي صيدا بمحافظة ديالى، ثم في بعقوبة بتاريخ 9 تشرين الثاني 2006، حيث تسببت بخسائر كبيرة في إنتاج الحمضيات. توسع انتشارها ليشمل مناطق عديدة في العراق، بما فيها بغداد، كربلاء، صلاح الدين، البصرة، ومحافظات أخرى.
موسم حصاد مبكر
بين أشجار الحمضيات في قرية الهويدر، يقف المزارع مهند منعم حسين، من مواليد عام 1995، مستظلاً بأوراقها، وقد ارتسم الحزن على ملامحه. يقول: “بدأنا الحصاد مبكرًا هذا العام، قبل شهر كانون الأول، بسبب إصابة البرتقال والليمون الأجنبي بندبة ناجمة عن ذبابة الفاكهة.”
ويضيف: “عادةً ما يبدأ بعض الفلاحين موسم الحصاد في شهري شباط أو آذار، لكننا قررنا الحصاد قبل أن ينضج المحصول تمامًا لإنقاذ أكبر قدر ممكن منه.”
ويوضح مهند: “خلال السنوات الثلاث أو الأربع الماضية، ازدادت نسبة انتشار الحشرة في البساتين. ورغم أن مدى تفشيها يختلف من موسم إلى آخر، إلا أنها انتشرت بشكل واسع هذا العام وألحقت أضرارًا بأكثر من 30% من محصولنا. هذه النسبة تبدو مقبولة لأننا حصدنا المحصول قبل النضج، وإلا كنا سنخسره بالكامل”.
أما عن الحلول، فيقول مهند: “حاولنا صنع مصائد يدوية باستخدام القناني البلاستيكية، لكننا لم ننجح. كما جربنا مكافحة بستاننا بالمبيدات، لكن ذلك لم يجدِ نفعًا. المشكلة تكمن في أن مكافحة البستان الواحد لا تكفي إذا لم تكافَح البساتين المجاورة. الأمر يصبح مجرد إهدار للمال دون تحقيق أي نتيجة فعالة”.
جهود محدودة وشبهات حول انتشارها
وحول جهود مكافحتها، أشار مدير إعلام دائرة زراعة ديالى، محمد المندلاوي، في تصريح لـ “شرق العراق” إلى أن “هناك جهودًا للمكافحة هذا العام، لكنها ليست بالمستوى المطلوب بسبب قلة المبيدات المتوفرة، مما جعلها غير كافية لتغطية جميع بساتين المحافظة. بالإضافة إلى ذلك، انشغل قسم الوقاية لفترة طويلة بالتركيز على مكافحة سوسة النخيل الحمراء”.
وأوضح المندلاوي أن “الدائرة وزعت مصائد فرمونية تعمل على جذب ذكور الحشرة عن طريق خداعها بوجود إناث في المكان. يدخل الذكر المصيدة ويموت، مما يسهم في تقليل التزاوج والحد من انتشار الآفة”.
من جهته، قال علي عبد الله، مدير قسم الوقاية في دائرة زراعة ديالى، في لقاء سابق، إن “الإنتاج قد يتراجع بنسبة تصل إلى 80% إذا لم توضع حلول جادة للتصدي للحشرة”.
وأكد أن “المصائد الفرمونية لا تقضي عليها بشكل كامل، بل تهدف إلى منع التزاوج وتقليل انتشارها”.
ظاهرة طبيعية أم مخطط لضرب الإنتاج المحلي؟
من جانبه، أوضح عضو مجلس محافظة ديالى، رعد مغامس التميمي، لـ “شرق العراق” أن “معدلات انتشار الآفات الزراعية في المحافظة شهدت ارتفاعًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، خصوصًا بين الحمضيات التي تراجعت إنتاجيتها بشكل كبير”.
وأشار إلى “وجود شبهات حول نقل هذه الآفات إلى العراق بشكل متعمد، بهدف الإضرار بالإنتاج المحلي من الفواكه والخضار”.
وأضاف التميمي: “شهدت البيئة الزراعية العراقية خلال السنوات الأخيرة ظهور أكثر من 30 نوعًا من الآفات التي تصيب المزارع والبساتين بشكل مباشر، ما يشير إلى أن القطاع الزراعي بات مهددًا بشكل متزايد”.
وبين أن “حملات المكافحة غالبًا ما تكون غير فعّالة، بسبب مقاومة بعض هذه الآفات للمبيدات المستخدمة. ويُعزى انتشارها إلى فوضى الاستيراد الخارجي للمحاصيل والخضار، إضافة إلى غياب الفحوصات الدقيقة للمواد المستوردة والمبيدات”.
ودعا التميمي إلى “إعادة النظر في السياسات الزراعية، والعمل على حماية القطاع الزراعي في ديالى وجميع المحافظات العراقية من تهديدات الآفات والتراجع الإنتاجي”.
مقارنة بين الحاضر والسابق
اما الحاج أبو فراس وهو مزارع من الهويدر(61 عاماً)، يطالب بضرورة تدخل حكومي عاجل لمكافحة الآفات الزراعية التي تهدد محاصيلهم، قائلاً: “نحن بحاجة إلى دعم حكومي يمدنا بالمبيدات المناسبة ويساعدنا على التخلص من هذه الآفات التي باتت تفتك بمحاصيلنا.”
واسترجع ابو فراس ذكرياته عن الماضي قائلاً: “في السابق، عندما كانت تظهر آفة مثل الدوباس أو السوسة الحمراء أو الدودة البيضاء، كانت وزارة الزراعة توجه بتنفيذ حملات مكافحة جوية تغطي جميع البساتين، مما يساهم بشكل فعال في الحد من انتشارها.”
وخلال جولتنا مع المزارع ابو صفاء المهداوي في بستانه، اختتم حديثه بنبرة يغلب عليها الحزن وعدم التفاؤل بعودة الإنتاج الزراعي في ديالى إلى سابق عهده، قائلاً: “لا يمكن مقارنة كمية الإنتاج حالياً بما كانت عليه في الماضي. أتذكر في عام 1987 أن بستاننا، الذي تبلغ مساحته خمس دونمات، أنتج حوالي 16 طناً من المحاصيل، وبعناها آنذاك بسعر خمسة آلاف وخمسة وثلاثين ديناراً. أما الآن، فإن المحصول بالكاد يغطي تكاليف المعيشة أو الزراعة.”
وأضاف أبو صفاء: “نحن، المزارعون، بحاجة إلى دعم حكومي كبير لمواجهة التحديات، في ظل انتشار الآفات الزراعية وتأثيرات التغير المناخي. إذا استمرت الأوضاع كما هي، فلن تعود ديالى إلى مكانتها كسلة الغذاء في العراق”.
أنتج هذا التقرير بدعم من برنامج قريب ميديا الممول من CFI & AFD