
أحمد نجم
في الوقت الذي تحافظ فيه بعض الأطعمة العراقية على مقاعدها الدائمة في موائد العراقيين بمختلف الفصول والأجواء، هناك أطعمة أخرى ترتبط بحالات الطقس وتقلبات درجات الحرارة التي تتطرف فيها الأجواء العراقية وتتنوع بتنوع مناطقها ومكوناتها.
وللأطعمة وظائف عدة، فهي ليست حاجة لسد الجوع ومنح الجسم الشعور بالشبع ومده بالطاقة المطلوبة لإنجاز أعماله اليومية فقط، بل تدخل الأكلات في مجال الهوية والتراث. فبعض المجتمعات، مثلًا، تعتز بمنتجات مطابخها بنفس مستوى اعتزاز بلدان أخرى بحضاراتها أو منجزاتها العلمية.

إضافة إلى ذلك، فإن في فصل الشتاء تبرز وظيفة أخرى للأطعمة تتمثل بالدفء الذي تمنحه بعض الوجبات الساخنة لجسم الإنسان، لتمكنه من تحقيق توازن درجة حرارته، وتساعد بعضها في التخلص من الإنفلونزا ونزلات البرد.
وفي ديالى، هناك وجبات شتوية متعددة تتنوع بتنوع المناطق والمكونات المختلفة فيها، بعضها وجبات يمكن أن تكون رئيسية، أهمها شوربة الكشك، وتُلفظ أحيانًا الجشج ويُسميها البعض (ترخينة)، وهي حساء مكون من خلطة معقدة من حنطة مهروسة ولبن حامض ولوبيا حمراء، إضافة إلى بعض المطيبات الأخرى مثل النعناع أو الهيل ويشتهر بطبخها (الكورد) وخاصةً في مندلي وخانقين.



وهناك أيضًا خلط دبس التمر مع الراشي (عصارة التمر مع عصارة السمسم) الذي يُعتبر تراث ديالى في الأكلات الشتوية، كما توجد وجبات شتائية خفيفة مثل اللبلبي والشلغم التي تُطبخ في البيوت، والذرة التي تُباع في عربات خاصة في الشوارع والأسواق، وهناك أيضًا حلويات ترتبط طقوسها بالأجواء الباردة مثل المدكوكة.
أما المشروبات الساخنة، وأبرزها الشاي، فيصعب تصنيفها على أنها مشروبات شتائية لأن العراقيين لا يتخلون عنه حتى في أشد أيام الصيف سخونة.

في وسط سوق بعقوبة
يدفع عبد الرحمن عربة من ثلاث إطارات ويحجز لها مكانًا قرب شارع الأطباء، وما إن يرفع الأغطية حتى تنبعث الأبخرة وينكشف من خلالها وعاءان: الأول للشلغم والثاني للبلبي. بعد دقائق، يبدأ الزبائن والمارة بالتوافد لشراء أطباق اللبلبي التي تُقدم بأوانٍ بلاستيكية، ويُضاف إليها عدد من المطيبات الموضوعة على جانب العربة مثل الليمون والملح والدبس.



يقول عبد الرحمن (23 عامًا) إن الإقبال على تناول الوجبات من عربته يزداد كلما انخفضت درجات الحرارة، لكن لأن شتاء العراق قصير نسبيًا، يلجأ هو والآخرون لبيع المشروبات الباردة أو أطعمة أخرى من الوجبات السريعة في بقية فصول السنة.
ولا تحظى بعض هذه الوجبات بإجماع العوائل العراقية، وقد تسبب بعضها تنافر الأذواق بين الأجيال.
تقول منتهى، وهي ربة بيت تبلغ من العمر 40 عامًا: “لمن أطبخ شلغم، ولديَّ ما يدخلون للمطبخ”. وتشير بذلك إلى أن طبخ بعض الأكلات منزليًا في الشتاء يتسبب أحيانًا بغضب بعض أفراد الأسرة، وتحديدًا الأبناء الذين لا يستسيغون رائحة طبخ الشلغم أو حامض الشلغم، ويصبح الموضوع مثارًا للسخرية بين العائلة. أما أطعمة أخرى مثل اللبلبي وشوربة الكشك، فتحظى غالبًا بإجماع الأبناء.



ويُعتبر اللبلبي، المكون من الحمص المسلوق المغلي بماء لعدة ساعات، ثم يُضاف إليه بعض المطيبات الحامضة مثل الليمون، من الأكلات تركية الأصل والمنتشرة في بلدان أخرى تعرضت للحكم التركي مثل تونس، وتُسمى هناك باللبلبي.
أما الشلغم، فيُقطع ويوضع في الماء ويُترك ليغلي مع إضافة دبس التمر، وهي أكلة شتائية تمنح الجسم الشعور بالدفء، إلا أن رائحتها القوية تنفذ بقسوة لأنوف الجميع.
اما في قرى جنوب بلدروز، فتظهر أكلات أكثر ارتباطًا بالعادات الريفية، مثل المدكوكة، التي تعتمد على التمر والسمسم، ويتم تحضيرها بطريقة جماعية داخل المضيف، مما يعكس روح التعاون في مجتمع الريف.
يجتمع الشباب عند مضيف “أبو نمر” أسبوعيًا لتناول المدكوكة، وهي حلوى تعتمد على سحق حبات التمر مع نواتها بالطرق المستمر بواسطة الجاون والميجنة.
يقول أبو نمر لـ”شرق العراق” إن “التعاون على عمل المدكوكة داخل المضيف يعطي أجواءً إيجابية ويزيد الألفة.”
أما عن المكونات، فالتمر المفضل لإعداد المدكوكة هو الجويزي والأشرسي مع السمسم، وأحيانًا يُضاف إليه اللوز أو الجوز أو الراشي.



“كلما كانت المواد المستخدمة في إعداد المدكوكة عراقية محلية، يكون طعمها أفضل”، يقول أبو نمر ذلك وهو ممسك بالأداة التي يستخدمها لطرق التمر وتُسمى الميجنة، وهي أداة أسطوانية مصنوعة من الخشب وفي قمتها قطعة خشب مستطيلة تُمسك باليد، وفي جهتها الأخرى تخترق الجاون، وهو إناء خشبي كبير توضع فيه مكونات المدكوكة.



يُصنع الجاون محليًا في بهرز، وأحيانًا يأتي من كردستان، وسعره بحدود 75 الى 150 ألف دينار.
يرى أبو نمر أن الجاون المصنوع من خشب التوت (التكي) هو أفضل الأنواع.
ويستغرق طحن التمور مع نواتها حوالي نصف ساعة من الطرق المتواصل الذي يتناوب عليه الحاضرون، وربما لهذا السبب صارت صناعة المدكوكة من اختصاص الرجال.





أكلات الشتاء في ديالى أكثر من مجرد طعام
أكلات ديالى الشتوية ليست مجرد وصفات، بل هي جزء من تراث المدينة وذاكرتها ودلالة على تنوع النسيج المجتمعي فيها، حيث يشتهر مطبخ كل منطقة او مكون في المحافظة بأكلة شتوية مميزة يجتمع على حبها وصنعها العائلة والأقارب والاصدقاء، وتبقى محفورة في الذاكرة كجزء من الهوية المحلية التي تميز أهلها عن غيرهم.
لقد تم انتاج هذا التقرير بدعم من مشروع “قريب” برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)