الانقراض وشيك.. غزلان الريم في محمية مندلي بلا “حماية”

في أطراف قضاء مندلي، وفي البيئة الطبيعية التي عاشت فيها غزلان الريم لقرونٍ طويلة، أُنشئت محمية مهمتها حفظ هذه السلالة الجميلة التي طالما استخدمها الشعراء العرب لتشبيه حبيباتهم برشاقتها وعيونها الواسعة.
ورغم مرور نحو 25 عامًا على إنشاء المحمية، فإن شبح انقراض هذه الفصيلة يزداد، وأعداد الغزلان في محميات العراق تتراجع نتيجة خليط من الأسباب، يتصدرها الإهمال، وضعف الدعم المالي، والتغير المناخي.
تمتد المحمية، التي تُعد كنزًا بيئيًا يصعب تعويضه، على مساحة 400 دونم شمال مندلي (120 كم شرق بعقوبة).
وكانت تتراقص فيها، قبل سنوات قليلة، قرابة 400 غزال من الذكور والإناث، لكن تلك القطعان تقلّصت كثيرًا بنسبة تفوق 90%. فما تبقّى منها اليوم نحو 30 غزالًا تصارع الأمراض، والجوع، والإهمال..
المرحلة الحمراء
ومنذ أن انتقلت إدارة المحمية من دائرة الزراعة في ديالى إلى مديرية الغابات والتصحر في وزارة الزراعة قبل ثلاث سنوات، أخذ وضع المحمية يزداد سوءًا.
يروي محمد المندلاوي، مدير إعلام دائرة الزراعة، الحكاية بحسرة:
“كانت الغزلان تستوطن البيئات الطبيعية في المناطق الحدودية بين العراق وإيران، وخاصة في مندلي وقزانية. وكانت أعدادها قبل عقود تُقدّر بالآلاف، وربما عشرات الآلاف، لكنها اليوم وصلت إلى المرحلة الحمراء، وأصبحت مهددة بالانقراض”.

ويشير المندلاوي إلى أن عدد رؤوس الغزلان في المحمية، قبل أن تخضع لإدارة مركزية من قبل وزارة الزراعة، كان يتراوح بين 300 و400 رأس، لكنه انخفض اليوم إلى أقل من 30 رأسًا.
ويُرجع الأسباب إلى ” الأمراض، والهلاكات الناتجة عن ارتفاع درجات الحرارة، بالإضافة إلى نقل عدد منها إلى محمية الدبس في كركوك”.
ويختم بالقول: “هذا التراجع يمثل جرس إنذار، لذلك نحتاج إلى تدخل عاجل للحفاظ على ما تبقّى من هذا النوع النادر”.

انقراض وشيك
وعلامات الاستفهام حول هذا التراجع الهائل، يبحث قائمقام مندلي الجديد، علي ضمد الزهيري، عن إجابة لها.
يقول لـ “شرق العراق”: شكّلتُ لجنة تحقيقية للوقوف على أسباب ما تعرّضت له المحمية في السنوات الأخيرة”، ولم تُكشف حتى اليوم نتائج التحقيق، لكن الزهيري يقود الآن حراكاً لإعادة إدارة المحمية إلى داخل المحافظة، بما يتيح تقديم الدعم اللازم لإنعاشها وإنقاذ غزلانها من الانقراض الوشيك.
“استحصلنا موافقة الحكومة المحلية على رفد المحمية بكادر مختص، من ضمنه طبيب بيطري، وطلبنا أيضًا تخصيص موازنة ثابتة للمحمية.”يضيف الزهيري.
ويسعى القائمقام إلى تحويل المحمية إلى واحة سياحية يمكن أن تجذب الزوار من ديالى أو من خارجها، لكن كل ذلك مرهون بإنقاذ غزلانها أولًا، وإيقاف التدهور والتراجع الذي تعانيه.
امراض فتاكة
وتشير المصادر إلى غياب الرعاية الطبية والصحية لغزلان الريم، فهي تصارع لوحدها، ومن دون مساعدة، ظروفاً قاسية وأمراضاً عديدة.
وتوجد نحو خمس أمراض تشكّل تهديداً قاتلاً لهذه الفصيلة النادرة، كما يقول محمد التميمي، مدير المستشفى البيطري في ديالى:
“يمكن أن تموت بسبب الإصابة بالحمى القلاعية، أو النزفية، أو تعفّن الدم، وأحيانًا بسبب تناولها للأعشاب السامة الموجودة في الطبيعة”.

ويؤكد التميمي على ضرورة متابعة الحالة الصحية للغزلان إذا ما أردنا الحفاظ عليها من الانقراض، ويسعى هو الآخر إلى بلورة برنامج علاجي، وتنظيم زيارة ميدانية للمحمية للمساهمة في حماية ما تبقّى منها.
اسعار مرتفعة
والشكل الجميل لغزلان الريم يجذب إليها هواة تربية الحيوانات، حيث يُسهم هؤلاء أيضًا في الحدّ من انقراضها.
لكن استخدام لحومها أحيانًا في مطاعم خاصة يساهم في ارتفاع كبير في أسعارها، حيث يصل سعر الغزال الذكر إلى أكثر من ألف دولار، وقد يكون سعر الأنثى أكثر من الضِّعف أحيانًا.

ويروي محمد المجمعي، أحد مربي الحيوانات في بعقوبة، مشاهداته عن المحمية التي سبق أن زارها عدة مرات:
“تمتلك مقومات تؤهّلها لتكون منتجعًا سياحيًا بيئيًا، من خلال استثمار المياه الجوفية العذبة في المحمية لإنشاء أحزمة خضراء وغابات طبيعية، لاستقطاب المزيد من الحيوانات، وخاصة الطيور المهاجرة”.
ويقول المجمعي إن موقع المحمية يُعدّ من المسارات الطبيعية لهجرة الصقور النادرة، مثل الصقر الحُر.
محميات العاق تعاني
ومحمية مندلي ليست الوحيدة؛ ففي العراق خمس محميات طبيعية أخرى لغزلان الريم تقع في العمارة، والمثنى، والموصل، والأنبار، وكركوك.
“وجميعها تعاني من وضع صعب. عدد الغزلان الموجود الآن في العراق محدود جدًا، وهي فعلاً مهددة بالانقراض”، كما يقول الخبير الزراعي حميد النايف لـ “شرق العراق”.
ويشير النايف، وهو الناطق الرسمي السابق باسم وزارة الزراعة، إلى أن قلة الدعم أثّرت بشكل كبير على المحميات، وأدّت إلى حالات نفوق في الغزلان.
ويضيف: “كانت هذه المحميات تعاني من إشكاليات في إدارتها بين وزارة الزراعة والمديريات، حيث إن مديريات الزراعة، وفق القانون، تدعم من قبل الحكومات المحلية، لكن الأخيرة لا توفّر ميزانيات كافية، لذلك كان الدعم المتوفر للمحميات محدوداً”.

ويؤكد أيضًا على ضرورة أن يكون هناك دعم ثابت من قبل بغداد للمحميات، من خلال تخصيص مبالغ مالية، إضافة إلى تشكيل فريق وطني للحفاظ على الأصناف النادرة، ومنها الريم العربي.
ويُلفت إلى أن المحميات لا تقتصر على غزلان الريم فقط، بل تمثّل بيئة برية تجذب إليها أصنافًا من الطيور وبقية الحيوانات الأخرى، خاصة أن مساحتها كبيرة وتضم آلاف الدونمات، وبالتالي فهي بيئة بكر يمكن استغلالها في الأبعاد السياحية، إلى جانب تطوير وإكثار الحيوانات النادرة.
ويحذّر من بقاء الوضع على ما هو عليه دون إيجاد بوصلة متكاملة لرعايتها، وهو ما قد يؤدي إلى هلاك ما تبقى من غزلان الريم.
وتسعى لجنة الزراعة النيابية إلى تعزيز الدعم المالي للمحميات، كما تؤكد النائبة آثار الجبوري لموقعنا: “ملف المحميات سيكون ضمن أولويات نقاشاتنا مع وزارة الزراعة”.

وترى الجبوري إمكانية أن تتحوّل المحميات العراقية إلى وجهات سياحية كما في الدول الأخرى، في حال توفّر الدعم والاستثمارات الحقيقية لتطويرها.
“ولابد من الإشارة في ختام التقرير إلى أن فريقًا صحفيًا من وكالة شرق العراق حاول زيارة محمية مندلي، وقد تقدم بطلب رسمي عن طريق مسؤول المحمية إلى دائرة الغابات والتصحر التابعة لوزارة الزراعة، وهي الجهة المسؤولة المباشرة حاليًا عن المحمية، إلا أن الطلب رُفِض دون مبرر مقنع. لذلك، فإن الصور المرفقة مع التقرير تعود إلى زيارات سابقة، أو تم الحصول عليها من مواقع رسمية مثل وزارة البيئة ودائرة بيئة ديالى.”
تم انتاج هذا التقرير بدعم من مشروع “قريب” برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)