ناس العراق

فتــــى الــنــَّـھـــر

أحمد السالم

جلست كعادتھا مساءَ كلّ اربعاء عند ضفّة النھر، وأخرجتْ حزمة شموعٍ بیضاء صغیرة راحتْ تشعلھا الواحدة تلو الأخرى بصبرٍ ومحبّةٍ وتثبتھا على لوحٍ صغيرٍ من الخشب بيدٍ مرتعشةٍ وھي تترنمُ بكلمات أغنيةٍ قديمةٍ:

جیتكْ یا شطْ متّعني

  أنذرْ لك نذر

 لیلة أربعاء

واعلگ شموع الخضر

 بلكتْ یعود الغایب

 العیني على دربة ربیة

كانتْ كحمامةِ دوحٍ مجروحةٍ تنوح. دفعتِ اللوحَ على سطحِ الماء وتابعته بعینینِ دامعتینِ وھو یتھادى مبتعدًا.

حدّرتْ ويَّ الماي

ويَّ جُرفِ النھر

 وعیني الھجرھا النّوم

 رك بیھا النظر

 خایفْ على الشمعات یطفنْ بالھوى[1]

حبستْ أنفاسھا وأمسكتْ عن الحركة. كانتْ تفكّرُ أنَّ زفراتھا الحرى ستحرّك الھواء حولھا فيُطفئ الشموع. بقاء الشموع مشتعلة حتى تغيب عن ناظري صاحبتھا إشارة على أنَّ أمنیتھا ستتحقّق وأنَّ الغائب سيعود.

 منذ سنواتٍ وھي تتردّد على ھذا المكان. باتَ ھذا طقسھا الأسبوعي منذ أنْ غاب. أقسمتْ أنْ لا تتوقف عن المجيء إلى ھنا حتى لو كلّفھا الأمر حیاتھا. لن یوقفھا حرُّ الصّیف ولا برد الشتاء، علَّ ربّ النھر یعید إلیھا الغائبَ منذ سنوات.

كلّما ھربَ سمیر منھم وخرجوا للبحث عنه كانوا یجدونه ھنا. یحدّثُ النھر ویبثُّ إلیه ھمومه.

كان یھاجمه مرةً ویعاتبه مراتٍ. یقول: إنَّ أمواجَ النھر التي تندفعُ الواحدة تلو الأخرى متجھةً نحو البحر، ھي جثثٌ یحاول أصحابھا النھوضَ لیثوروا على الطاغیة. كانت تشفقُ علیهِ فتصحبه بین الحین والآخر إلى النهر وتجلس قريبًا لمراقبته. یمضي عدّةَ ساعاتٍ في كلّ مرّةٍ. صامتًا تارةً ومتحدّثًا تارةً أخرى. یبكي ویضحكُ. یسخرُ ويمزحُ لكنّه یعود منھكًا خائرَ القوى بعد كلّ زيارةٍ وینامُ كالطفلِ لیومینِ أو ثلاثةٍ قبل أنْ تداهمه إحدى تلك النوبات مجددًا فيصبح نزقًا حادَّ المزاجِ يرفضُ الطعامَ ویھیم ُعلى وجھهِ في الشوارعِ إنْ سنحتْ له الفرصة.

          كان الطقسُ شديدَ البرودةِ في ذلك الوقتِ من السنة. فوجئتْ معظمُ القَطَعاتِ العسكريةِ المتجحفلةِ في الجنوبِ بنقلھا إلى شرق البصرة؛ لتعزيز القوات المنتشرة ھناك. كان الجميعُ يعلم أنَّ التحضيراتِ تجري على قدمٍ وساقٍ لصدّ ھجومٍ کبیرٍ ینوي الإیرانیون شنَّه على منطقةِ نھر جاسم[2].

وصلتْ وحدةُ سمیر العسكرية لیلًا. كثافةُ القصفِ المدفعي والجوي الذي كان ینھمرُ فوق الرؤوسِ كالمطرِ بدَّدَ ظلمةَ اللیل.ِ بدتْ المنطقةُ شبهَ جزیرةٍ مفتوحةٍ تمتدُ على مرمى البصرِ وتغفو على ذراعِ نھرٍ ضيّقٍ يجري بمحاذاةِ شطّ العرب. كانتْ القواتُ الإیرانیةُ تحتل أجزاءً واسعةً من الشريط الحدودي الممتد من الفاو إلى الشلامجة. لم یکن یفصلُ بینَ القواتِ العراقیةِ والإیرانیةِ غیر سواتر ترابیة أقامھا الطرفانِ لإعاقةِ تقدّم كلّ منهما.

 لم یتبیّن سمیر ملامحَ المنطقة فالصواریخ والقذائف كانتْ تضيءُ السماءَ بشكلٍ خاطفٍ والحرائق التي تشعلھا على الأرضِ لم تكن تؤمّنُ الرؤیةَ لمساحاتٍ كبیرةٍ. كان البقاءُ داخلَ الآلیاتِ یعني موتًا محتمًا. وردتھم الأوامر بمغادرة الآلياتِ والانتشار في السواقي القريبة التي خلّفتھا السیولُ والحفرَ التي احدثتھا القذائفُ. كان الجمیعُ یعرف أنَّ ھذه المنطقة سھلیةٌ منخفضةٌ وممرٌّ للسيولِ القادمةِ من إيران إلّا أنّھم لم یتخیلوا أنّھم سیخوضون في أرضٍ وحليةٍ رخوةٍ يغوصون فيها أحيانًا إلى منطقة الخصر. كانتْ أكوامُ الملحِ والحشائش التي تغطي مساحاتٍ شاسعةً تمنح إحساسًا زائفًا بالأمان، الا أنَّ القشرةَ الملحیةَ الخفیفةَ كانت سرعان ما تتھشم لتغوص الأقدام في بركٍ من الماءِ والطینِ والملحِ.

مرَّتْ ساعاتٌ والآلاف من الجنود یجرّون أقدامھم جرًّا في ھذا الوحل بعد أنْ غرزتْ معظمُ آلیاتھم ولم تتمكّن من التقدّم أكثر فیما تكفلتْ المدفعیةُ والطائراتُ الإیرانیةُ بإحراق الآلیاتِ التي تتحرّك بمحاذاةِ السَّاترِ التُّرابي. لم یعدْ سمیر یشعرُ بساقیه من شدّة البرد. حمد الله كثیرًا أنَّ الخوذةَ ومخازنَ العتاد التي یحملھا قریبًا من صدره والتي طالما تذمَّر منھا، كانتْ تؤمّنُ له بعضَ الدفء. صارتْ قذائفُ المدفعیة تتخطاھم وتسقط ُخلفھم فحظي الجميعُ بهدوءٍ نسبي. باتَ سمیر یمیّزُ صوتَ أنفاسٍ لاھثةٍ. لم یعرفْ إنْ كانت تلك أنفاسه أم أنفاس الجنود القریبین منه. التقطتْ أذناه صوتَ نشیجٍ مكتومٍ وأصواتَ أدعیةٍ كان أحدھم یردّدھا بتوسّلٍ وإلحاحٍ.

أدرك الجمیع أنّھم باتوا قریبین جدًا. لم یشعر سمیر بالخوف. كان شعوره أقرب إلى الخضوع والاستسلام منه إلى الخوف. فشل بحبس دموعٍ راحتْ تنهمر على خدّيه دون إرادته. شعر بأنّھم كانوا یُساقون للموت كالماشیة.

بدأ الظلام ینجلي شیئًا فشیئًا إلا أنَّ الضباب الكثیف كان یخیم علي المكان ویمنع الرؤیة لأبعد من عشرة أمتار. ھدأ القصف المدفعي من كلا الجانبین قلیلًا. بدا واضحًا أنَّ مشاة كلا الطرفین باتوا خارج مرمى المدفعیة ممّا یعني أنَّ الھجوم على وشك أنْ یبدأ. انبطح معظم الجنود بمحاذاة السدّة الترابية التي باتتْ أخر خطّ دفاعي یفصل بینھم وبین القوات الإیرانیة، كانتْ فرصة لیلتقطوا أنفاسھم ویریحوا أجسادھم فوق أرضٍ صلبةٍ قبل أنْ یُساقوا إلى المحرقة.

لم یعرف سمیر كم مرَّ من الوقت قبل أنْ تعمّ الفوضى المكان. كان الرصاصُ یتطایرُ من كلّ حَدبٍ وصَوبٍ والجنود الإیرانیین في كلّ مكانٍ. بدا عددھم مَھولًا حتى أنَّه لم یعدْ یمیّز بینھم وبین رفاقه. نفدتْ ذخیرته وباتتْ المسافة التي تفصل بینه وبین أيّ جندي قریب، صفر.

لم یجدْ بدًّا من استعمال سلاحه الأبيض الذي سبق وإنْ وردت الأوامر بتجھیزه. لا یعرف كیف ومتى صار وسط النھر الذي یفترض أنَّه یبعد عنھم مسیر ساعةٍ أو أكثر. كانت الجثثُ تنبتُ من حوله وتغطّي كلَّ شبرٍ من الأراضي المحیطة. فَھِمَ أنَّ علیه أنْ یعبر النھرَ الى الضّفةِ الأخرى حیثُ الخطوط الخلفية للقطعات العراقیة. صار یزیحُ الجثثَ بیدیه لیشقَّ طریقه نحو ضفةٍ صارتْ أبعد من نجمٍ سھیلٍ.

لم یعدْ یعرفُ إنْ كان الجنديُّ القریبُ منه عراقیًا أم إیرانیًا. راح یضربُ یمینًا وشمالًا دون تمییزٍ. كانتْ معركةُ حیاةٍ أو موتٍ. لم یملكْ وقتًا للتفكیر فیما یفعله. ھو الذي لم یذبحْ دجاجةً في حیاته، قتل الكثیرین في ذلك اليوم. لا یعرفُ عددھم ولا یتذكرُ ملامحَ وجوههم لكنه یتذكرُ تمامًا كیف كان یزیحُ جسدَ كلّ واحدٍ منھم عن طریقه بلا مبالاةٍ غریبةٍ، لیتفرّغ للآخر.

لا یعرف كم من الوقت مرَّ علیھم وھم یخوضون بنھر الأجساد ذاك قبل أنْ یحسمَ الطیرانُ العراقي المعركة ویدفع ما تبقّى من القواتِ المھاجمةِ بعیدًا. حلَّ الصَّمتُ فجأةً واستعادت المنطقةُ ھدوءھا وحانَ وقتُ إحصاء الخسائر.

لم ینجُ من وحدة سمیر العسكریة غیر بضعة جنودٍ كان لسوء حظّه واحدًا منھم. وردت الأوامر بإعادتھم إلى الخطوط الخلفية. كان علیھم أنْ یعودوا مشیًا على الأقدام كما جاءوا. مشى بجانب السدّة الترابیة وھو یحاول أنْ یتبیّن موطئ قدمیه. كان يبذل جھدًا لتجنّب المرور فوق الجثث التي غطّتْ الأرض بشكلٍ كاملٍ. حانتْ منه التفاتة نحو النهر الذي شھد انھیار منظومته الأخلاقية وھدر آدمیته. كانت الجثث تطفو على سطحه ھو الآخر وترسم حدود ضفّتيه.

انتھتْ معركةُ “الحصاد الآكبر” ھكذا وصفھا المذيع وهو يزفُّ بُشرى النّصر المزعوم عبر مكبّرات الصّوت المربوطة بإذاعة القوات المسلحة، لكن كوابیس ذلك الیوم لم تنتهِ. كانت الکوابیسُ تطاردُ سمیر في صحوه ونومه. منظر تلك الجثث كان یقضّ مضجعه. تمّ تسریحه قبل نھایة الحرب بعدّة أشھرٍ لأسبابٍ صحیةٍ. اللجان الطبیة أثبتتْ أنَّه فقد عقله ولم یعدْ صالحًا للخدمة العسكریة.

باتَ ھزیلًا، صامتًا، شاردًا لا یعرف أحدٌ بِمَ یفكّر. كان یغادرُ البيت كلّ یومٍ لیأتي إلى نھر جاسم حیث یمضي معظم وقته. یقف ھناك. یستعید تفاصیل ذلك الیوم وكأنّه یجلد ذاته. یضحك بصوتٍ عالٍ یخالطه البكاء.

یخبرھا كلّما رافقته أنَّ ھذا النھر كان شاھدًا على عبودیتھم وأنَّ القیامة ستقوم ھنا یومًا حیث ستنبعث أجساد الخمسة والثمانین ألف شابٍ الذین قتلوا ھنا لتطالب بالثأر من الطغاة. یمسح دموعه بكمّ قمیصه ویشیر إلى نقطةٍ وھمیةٍ لا یراھا غیره. ھناك قتلتُ خمسةً. عشرةً. عشرینً. لا أعرفُ بالضبط كم كان عددھم. أنا لستُ متأكدًا حتى إنْ كانوا عراقیین أم إیرانیین. لم أكن أتبیّن وجوھھم. لا أتذكر حتى عدد الذین قتلتھم بالرَّصاص وأولئك الذین دججتھم بسكیني.

ینھار جاثیًا على ركبتیه وھو یراقب الأمواج التي تتھادى بھدوءٍ موجة إثر موجة قبل أنْ یتماسك ویردّد بصوتٍ جَھْوَري وكأنَّه یتحدّث إلى جمھورٍ یحتشد أمامه: ماركس يقول: إنَّ “الإنسان أثمن رأس مالٍ في الوجود” وإنَّ “الأخلاق صناعةٌ ابتكرها الأقوياء والمترفين لاستعباد الضعفاء والمُعدمين”.

یضحكُ بھستیریا وھو یشیر بإصبعه نحو النھر قبل أنْ ینھار باكیًا ويسترسل بانكسارٍ: لكن ماركس لم یكن معي هناك في ذلك الیوم عندما اكتشفت أنَّ “الحیاة لیست إلا منافسة یرید فیھا كلّ منّا أنْ یكون المجرم لا الضحیة”. [3]

یلتقط أنفاسه ويمسح دموعه بذراعه ويضيف بتحدّ: الحربُ لم تنتهِ بعد. “الموتى فقط ھم الذین انتھت الحرب بالنسبة إليھم”[4]، أما ھنا على الضفة فلا زالت دائرة.

لم یكن یتحدّث. كان في الحقيقة یھذي ویكرر مقولات لفلاسفةٍ غربيين أمضى سنوات شبابه الأولى في التھام كتبھم. صار تكرار ھذه النوبات يثير حفيظة المحیطین به فباتوا یمنعونه من الخروج لكنه كان یغافلھم ویخرج لیخطب في حشدٍ وھمي لم یكن یراه غیره.

أرسل مختار المنطقة یحذّر عائلته. طلب منھم أنْ یحبسوه فخطبه المتكررة أمام المارّة بدأت تستفزُّ الرفیق الحزبي المسؤول عن المنطقة والذي لم ی.صدق أنَّ صاحبها مصابٌ بمسّ من الجنون.

تسلمتْ مدیریة أمن البصرة في أحد الأیام تقریرًا سریًا من المسؤول الحزبي للمنطقة یقول: إنَّ المذكور

“یتظاھر بالجنون ویتخذه وسیلةً لیسخر من السلطة ویحرّض الناسَ ضد النظام[5].

ختم المسؤول الحزبي تقریره بعبارة “

المصلحة العامة تقتضي التصرف سریعًا لمعرفة الجھات التي تحرّكه لذا أقترح إحضاره أمامكم فورًا للتحقیق معه“.  [6]


[1] اغنية شموع الخضر للمطرب ياس خضر

[2] نهر صغير يقع شرقي البصرة على الحدود العراقية الآيرانية، شهد معارك شرسة في كانون الثاني ١٩٨٧ ابان الحرب العراقية – الآيرانية فيما يعرف بمعركة نهر جاسم التي راح ضحيتها ٨٦ الفا من الطرفين.

[3] مقولة للفيلسوف البريطاني برتراند راسل

[4] مقولة للفيلسوف الآسباني – الآمريكي جورجي سانتيانا

[5] عبارة مقتبسة من احد التقارير السرية لعناصر حزب البعث المحظور

[6] احداث القصة مستوحاة من حادثة حقيقية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى