ناس العراق

بــــــذرة امــــــــل

منال عز الدين

في حلكة ايامك، لن تميّز بين ظلام الليل وظلام أحزانك، لكنك تحاول وتبحث عن مصدرٍ لأيّ لونٍ أبيض حتّى وإنْ كان بياض ألبسة موظفي المشفى. فتحتُ عينيَ مجهدة لأحظى ببعض النور. كان البياض يلحفني وصوت طنين الأجهزة من حولي يخدشُ الهدوء ورائحة معقّمات غرفة العمليات تخالطُ أنفاسي. رسمتُ شبح ابتسامةٍ على ثَغري. ارتسمتْ علاماتُ الاستغرابِ على وجه الطبيبةِ ولسان حالها يقول: ألا تشعرين بألم الولادة

فأجبتها من دون أنْ أنبسَ ببنت شفة، لم أكن أشعرُ بالألم لقد عشتُ المخاضَ باكرًا منذ سبعة أشهرٍ كان المخاضُ حينها في قلبي الذي كان ينزّ وجعًا لفراق زوجي

 كان يومًا عصيبًا. شعرتُ بألمٍ عميقٍ في صدري. كانتْ روحي تُسحَبُ من بين أضلعي. انكمشَ قلبي والتفّ على نفسه من شدّة المصاب، بدا، كأنّ قوتي التي استمدها منه غادرتني فجأةً. انسلّتْ دفعةً واحدةً وتركتني خائرةً لا أقوى على التنفس. كان دمعي ينسابُ على خدّي بصمتٍ، فلم تكن لديّ طاقةٌ لأنشج بالبكاء.  أغمضتُ عيني بقوةٍ علّي أتخلصُ من هذا الكابوس. أغيّر الواقع الذي صار حقيقةً. أختصر المسافات أو أفعل شيئًا ما، أيّ شيءٍ، لكنّني فشلتُ. بدا الأمرُ صعبًا جدًا، وأصعبُ ما فيه أنّني كنتُ أعجز عن تحديد مساري على الخريطة كلّما فكرتُ بالمكان الذي قد يكون فيه الآن.

‏لم أتقبلْ فكرة فراقه حتى اللحظة. سبعة أشهرٍ مرّتْ كسبع سنواتٍ عجافٍ. كان قلبي يموتُ فيها كلّ يومٍ لكنّه يعود للحياة بركلةٍ من جنيني الذي كنتُ أشعر أنَّه يتوسلني البقاء على قيد الحياة. لم أعدْ أحتملْ. قلبي يتلظّى شوقًا لملاقاته، لذا قرّرتُ الرحيل إلى حيث ظننتُ أنّني ملاقية زوجي. توقّف قلبي فجأةً أثناء الولادة. عرج روحي نحو النور تاركًا جسدي بين يدي الطبيبة والممرضات. حلّت الفوضى في المكان. كانت الممرضات والطبيبة يصرخنَ ويتبادلنَ الأماكن في محاولةٍ لإنعاشي وإعادتي إلى الحياة.   كان أزيز جهاز الصعق يخدشُ أسماعي وشراره يحرقُ صدري، لكنني رحتُ على أيّة حالٍ، حلّقتُ بعيدًا كأنّني ريشةٌ يحملها الهواء. ابتعدتُ كثيرًا. لاحت لي مدينة. بدا أنّها كانت تطفو في الفراغ وتسبح بين جبلين شاهقين. اقتربتُ قليلًا. بدتْ المدينةُ مربوطةً إلى الجبلين بحبالٍ غليظةٍ وسلاسل ضخمة. تمعّنتُ في تشكيل هذه المدينة الغريبة. كانت بيوتها بلا جدران، ترسم ملامحها خيوطًا رفيعةً كبيوت العنكبوت وتربط بينها ألواح خشبية ضيّقة تمتد كجسورٍ عليك أنْ تعبرها بحذرٍ خشية أنْ تزلّ قدمك وتنزلق للفراغ

تلتمع بقربي بضع غيومٍ عابرةٍ يتخلّلها ضوءٌ شاردٌ من الهوّة الكبيرة التي تلتمع أسفلها. فكّرتُ قليلًا. لم أشعر بغرابة المكان لكنني احترتُ في الكيفية التي أواجه بها الموت. بدت المدينة حقيقيةً جدًا حدّ الرعب. مدينة بكامل تفاصيلها. حتى أنَّ سكانها كانوا أحياءً جدًا

 لا أحتاجُ لأكثر من أنْ أنظر إليهم مباشرة فتختفي هذه الألفة الزائفة وتظهر وجوهٌ غريبةٌ ترسم الهموم والأوجاع ملامحها البائسة

تلك جارتنا التي انتحرتْ في أعقاب قصّة حبّ فاشلة. وهذه جدّتي المتوفاة بخدّيها المترهلين وذاك يشبه شخصًا أعرفه من بعيٍد. صانع ساعاتٍ يلصق صفحة أذنه بساعةٍ صغيرةٍ تلاشى صوت عقاربها. وهناك تظهر ماشطةٌ بفرشاةٍ ناشفةٍ تمسح عظام وجنتي ممثلة جلستْ لتراجع دورها. فتاةٌ بجمجمةٍ ضاحكةٍ تحلب جثة بقرةٍ صغيرةٍ.

 أدركتُ أن هذه هي مدينة الأموات. لا يدخل هذه المدينة غير الأموات. هل يعني هذا أنّني مت؟

تذكرتُ أنّني على وشك أنْ أنجب طفل. فكّرتُ به قليلًا.  كيف لي أنْ أتركه وحيدا؟ هل أجرؤ على أنْ أجعله يتيم الأبوين قبل أنْ يولد؟ تعقلت الأمر والتفت مبتعدة. لا يمكنني البقاء هنا

عادت روحي إلى جسدي. تنهّدتُ بعمقٍ معلنةً عودتي إلى حيث أنتمي. جفلت الطبيبة والممرضات لكنهنّ حمدنَ الله على كلّ حالٍ ومسحنَ عن جبيني حبّات العرق التي تجمعت هناك

حائرة أبحث في الوجوه عن شخصي. أنظر في الفراغ الممتد على مرأى بصري ويد الطبيبة تحرّكني مشجعةً على دفع الجنين. أغمض عيني فيصفعنّني؛ خشية أنْ أغادر جسدي مرةً أخرى. تغضب الطبيبة فتصرخ

لا تغمضي عينيك. ادفعي هيّا، ستقتلين الجنين، سيختنق إنْ لم تحاولي مجددًا

 لا أجد ريقًا لأبلعه حلقي متيبّس كقطعة مطّاطٍ. أجبتها بصعوبة

لا، أرجوك، لا أريد لطفلي أنْ يموت. أرجوك أريد الطفل

هيّا، إذن تحفزي، خذي نفسًا عميقًا وادفعي                                                                    

مزّق سكون الغرفة بكاء طفلي الوليد بعد دقائق. صوته الرقيق يعزف على مسامعي لحنًا أشبه بصوت الحياة.  لكلّ شجرةٍ مقلوعةٍ بذرةٌ ستحاول الإنبات من جديدٍ، بكيتُ رغمًا عني، لكنّ دموعي وللمرّة الأولى كانت حلوة بطعم السكر، لم تكن مرّةً على الإطلاق. أعطوني طفلي ملفوفًا بخرقةٍ بيضاء. ٌ

 حمدتُ الله على هبته الكريمة، ناظرتُ وجهه الصغير بتمعنٍ. كان نسخةً عن والده، العينان اللوزيتان والجبهة العريضة نفسهنّ، ابتسم لي بشفاهه الصغيرة ليطبطب على قلبي وكآنّه يقول: أنا هنا يا أمي. سكن عندما حضنته وراح يحملق بوجهي بعينيه الزجاجيتين

راح الشريط يعيد نفسه في سواد مخيلتي. كنتُ أفتش عن كلمةٍ حلوةٍ، واحدة فقط تلملم جراحي لكنني لم أجد، كنتُ وحدي، وحدي للغاية، حتى زحام الناس حولي كان سرابًا، لكنك هنا يا ولدي مسندٌ جديدٌ لكتفي، وعينٌ جديدةٌ أنظر بها إلى الحياة. ‏كان حلم الأمومة أكبر من وجع الزوجة المكلومة ولذلك سأعيش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى