لمى سلمان
- اسمج ما موجود، انتظري شويه.
قالها ذلك المحاسب المسؤول عن تسليم المنحة المالية التي يقدمها بعض الميسورين لمَنْ فقدوا المُعيل مثلها، وهو يتظاهر بالانشغال. وفيما كان يكمل إجراءات مستحقٍ آخر، نظر نحوها بتمعّنٍ وهو يقول إنّه سيدقّق السجّلات مرةً أخرى بعد أنْ يخفّ الزّحام.
لم تكن نظراته مريحةً. شعرتْ أنّه يُخفي شيئًا ما لكنّها لا تملك غير أنْ تنتظر.
“شجابرك على المُر غير الأمر منه”. همستْ لنفسها وهي تشيح بنظرها بعيدًا وتنفث حسرةً حرّى.
نادى باسمها وأخرج ظرفًا فيه بعض النقود من درجٍ جانبي ووضعه على المنضدة أمامه. فرش أمامها بعض الأوراق وقدّم لها قلمًا جافًا من النّوع الرّخيص.
- وقّعي هنا.
قالها وهو ينظر إليها بعينين تنزّان شهوةً. سرتْ في جسدها رعشةٌ. لا تعرف إنْ كانت خوفًا أم اشمئزازًا. نظرتْ حيث كان يشير بإصبعه. سحبتْ القلم من يده وانحنتْ قليلًا متظاهرةً بقراءة محتوى الأوراق التي عليها توقيعها. لم تفهم الكثير ممّا قرأته. يبدو أنّه تعهدٌ أو شيءٌ يشبه وصولات استلامٍ. بلعتْ ريقها وحبستْ نفسًا عميقًا في صدرها. “صبر، صبر. مو وكتها” همهمتْ بصوتٍ لا يسمعه غيرها.
“الوقت غير مناسبٍ لردّ فعلٍ غير محسوبٍ” همس لها ذلك الصوت العاقل الذي يداهمها بين الحين والآخر من حيث لا تدري.
“أطفالكِ بحاجة هذا المال. وقّعي وابتعدي ولن تري وجه هذا الدنيء مجددًا” أضاف ذلك الصوت.
خربشتْ بعض الخطوط على الورقة. هؤلاء لا يدقّقون كثيرًا في نوع التوقيع أو شكله. ستخرج من هنا سريعًا وستشتري بعض الفاكهة وقليلًا من اللحم. الأطفال لم يتناولوا وجبةً محترمةً منذ مدّةٍ. مدّتْ يدها لتلتقط ذلك الظرف. فوجئتْ بيد ذلك المحاسب تضغط على يدها وعيناه تكاد تفترسانها.
شعرتْ بالنيران تشبّ بجسدها كأنَّ أحدهم صبَّ عليها مادةً كاويةً. احمرَّ وجهها غضبًا وانتفخ أنفها كالبالون.
ودّتْ لو تبصق في وجهه. أنْ تخلع أحد نعليها وتضربه. فكّرتْ أنْ تصرخ وتفضحه أمام الجميع أو تشتمه على الأقل وتنفث عليه بعضًا من هذه النيران التي تحرقها. لكنّها لم تفعل. تعلّمتْ أنْ تُكبتَ غضبها منذ سنواتٍ. منذ أنْ أخبروها أنَّ المرأة في مجتمعها هي الخاصرة الرّخوة التي ما انْ تخلو ساحتها حتى تصبح مطمعًا للضباع.
دفعتْ يده بعيدًا بقوةٍ ضاعفها شعورها بالقرف. ابتعدتْ عدّة خطواتٍ قبل أنْ تمدّ يدها لالتقاط ذلك الظرف اللعين.
“الحاجة تهدر ماء الوجه” قالت تحدّث نفسها وهي تخطو مبتعدةً بسرعةٍ وكأنَّ أحدهم يلاحقها.
“الكرامة للمسعدات وأنا لم أعد منهن” ردّدتها أكثر من مرّةٍ وهي تجزّ على أسنانها وتغالب دموعًا كانت تصارع لتفرّ من عينيها.
منذ أنْ وجدتْ نفسها وحيدةً بعد غياب زوجها أدركتْ أنَّ جوع أطفالها واحتياجاتهم في كفة، وقدرتها على التحمل في كفة مقابلة. وأنَّ هناك خطًا وهميًا يفصل بين “المضيومات” اللواتي يختبر صبرهن يوميًا مثلها وبين “المِسْعَدات” اللواتي أنعم الله عليهنّ بكل شيء. تسخر من أيامها وتضحك بغضبٍ كلّما فكّرتْ بقاموس الكلمات الذي ابتدعته منذ سبع سنواتٍ لوصف الأشياء. فالنساء وفقًا لقاموسها صرنَ صنفين: مِسْعَدات يأتي كلّ شيءٍ إليهن، ومضيومات ركبن قطار الهموم مبكرا فراح يهرب منهن كلّ شيءٍ.
عباءتها الجرداء التي تهرّأتْ حوافها، كانت ملاذها في تلك اللحظة. لفّتها حولها وكأنّها تحتمي بها من النظرات التي طالما شعرتْ أنّها تلاحقها أينما حلّتْ. شعرتْ أنَّ كفّ يدها بات ملوثًا. ذاك الدنيء لمسها. تفحّصتها جيدًا ثم دسّتها تحت العباءة. سارعت الخطى. تعرف مكانًا قريبًا فيه صنبور ماءٍ كانت هي و”المضيومات” -كما تصفهنّ- مثلها يشربن منه عندما كانت تطول ساعات انتظارهنّ لآكمال إجراءات معاملة ما بين الحين والآخر. حمدتُ الله أنَّ المكان خالٍ في تلك الساعة.
أخرجتْ يدها. وضعتها تحت فوهة الصنبور الذي كان يلفظ الماء بقوةٍ وسرعةٍ وكأنّه يلقي بعبءٍ ثقيلٍ عن كاهله ليتفرّغ لآخرٍ، مثلها تماما. راحت تفرك كفّها بقوّةٍ حتى كادت تسلخها. برودة الماء أطفأتْ شيئًا من نيران صدرها، فأرخت العنان لعينيها. انهمرتْ دموعها غزيرةً فيما استحالتْ أنفاسها لنشيجٍ مكتومٍ. راحتْ تجمع الماء بكفّيها وتُلقيه على رأسها وصدرها. كانت تريد أنْ تخمد النيرات التي تأكل قلبها وتنخر أضلعها. شعرتْ بأنَّ قواها تخور وأنَّ ساقيها لم تعد قادرةً على حملها. بركتْ على الأرض محطمةً منهارةً.
في نهاية الممر لاح بابٌ حديديٌّ غزاه الصدأ حتى تقشّر لونه الأسود ولم يتبقَ منه غير خربشاتٍ توثّق سنوات الإهمال الطويلة. كان الباب مواربًا. خمّنتْ أنّه يقود إلى غرفةٍ ما أو ربّما مخزنٍ. لم تتبيّنْ ما بداخل الغرفة ففتحة الباب لم تكن كبيرةً كفايةً لتكشف عمّا ورائها. لم تكن قريبةً من الباب بما يكفي لتستكشف ماهيّة تلك الغرفة. لا تعرف إنْ كانت نائمةً أم يقظةً ولا تعرف أين تقع هذه الغرفة. تلفّتتْ حولها. ما من شيءٍ يدلّها على المكان. لا شيء غير بعض الأصوات المختلطة التي كانت تنبعث من الداخل. أصغتْ جيدًا. إنّها أصوات رجالٍ، لكن ماذا يقولون؟
كانت الأصوات ترتفع تارةً وتنخفض تارةً أخرى. بذلتْ جهدًا لتسكتَ الضجيج الآتي من جمجمتها. تملّكها فضولٌ كبيرٌ لمعرفة ما يقولون. حبستْ أنفاسها. أحد تلك الأصوات بدا مألوفًا. تعرف جيدًا صاحبه وتميّز صوته من بين آلاف الأصوات. إنَّه صوته. صوته الذي لم تسمعه منذ سنواتٍ طوالٍ. أيعقل أنَّه هنا، خلف ذلك الباب؟
سكت ضجيج رأسها، إلا أنَّ تلك الأصوات لم تسكتْ. باتتْ متأكدةً أنَّه هو. “هو مو غيره”. قالت بضرسٍ قاطعٍ. حاولت استيعاب المفاجأة. بدأت الأصوات تخفتُ ثم تلاشتْ. ازدادتْ ضربات قلبها وأفلت ضجيج رأسها من عقاله دفعةً واحدةً. بدا وكأنَّ أحدهم يستعمل مكبّرات صوتٍ داخل جمجمتها. خشيتْ أنْ تفقده مجددًا. أنْ يضيع هذا الخيط الذي أنبتَ بذرة أملٍ كانت تبحث عنها منذ سبعٍ عجافٍ.
لم تستطع المقاومة، لملمتْ نفسها. نفضتْ عنها رماد ذلك الحريق المنطفئ للتوّ وقامتْ.
بخطواتٍ مترنّحةٍ وجلةٍ وحذرٍ خلّفته سنواتٌ من الخيبة اقتربتْ من الباب، دفعته على مَهلٍ ورأسها الصغير يتلفت يمينًا وشمالًا بحثًا عنه. كان المكان مظلمًا. أغمضت عينيها وفتحتهما مجددًا ليعتادا سريعًا على هذه الظلمة. لم تصدّق عيناها. إنّه قاسم.
أنتَ هنا؟ تساءلتْ بصوتٍ عالٍ سحق سنواتٍ من الحذر تحت أقدامها. حاولتْ أنْ تتأكد. أغلقتْ عينيها وفتحتهما من جديدٍ. “هو قاسم” ردّدتها في سرّها عدّة مراتٍ.
كان قاسم هناك يجثو على ركبتيه بدشداشته الزرقاء نفسها التي كان يرتديها آخر مرّةٍ قبل أنْ يختفي. كان رأسه محنيًا يتدلّى بين كتفيه، وعيناه معصوبتين بخرقةٍ سوداء فيما امتدّت ذراعاه للخلف. بدا أنّهما موثوقتان خلف ظهره. كان كطيرٍ جريحٍ استسلم لقدره ما انفكّ يردّد بصوتٍ مُنهكٍ مبحوحٍ تشي نبراته بالخوف.
- والله العظيم ما سوّيت شي. آنا رجّال فلّاح ما إلي علاقة بفلان وعلّان.
تقدّمتْ نحوه خطوةً. فكّرتْ أنْ تتبعها بأخرى إلا أنَّ شيئًا ما كان يمنعها. تجمّدتْ بموقعها؛ خوفًا من أنْ يختفي قبل أنْ تبوح له بما لم يعد لديها القدرة على احتماله:
- قاسم وين جنت؟ لا خط لا خبر!
دوّرتْ عليك بكل مكان. ما خلّيت واحد ما دكّيت بابه. توسّلت بالعدو والصديق حتى يكلولي إنتَ وين.
سكتتْ برهةً. تحوّلتْ نبرات صوتها من العتاب إلى الغضب.
وراك جبت بنية تدري يعني شنو؟ قالت بصوتٍ يخالطه الدمع، واسترسلتْ:
يعني صاروا تلاثة بركبتي. ثلاثة. أكل وشرب وطبيب وهذا ودّيه وهذا جيبيه وهذا تعارك وذاك ضربه ابن الجيران.
ثلاثة وأمّك المريضة والمدرسة اللي كلّ اشويه تودّي عليّه لأنْ هذا ما مسوّي الواجب وذاك ما حافظ الدرس. البنية صار عمرها سبع سنين وما يقبلون يسجلونها بالمدرسة لأن ما عندها أوراق والبستان اللي جان جنّة صار خرابة.
تعبت . تعبت وما بقى حيل بيّه وماكو معين.
لم يلتفت قاسم اليها. لم يرفع رأسه حتّى. فكّرتْ أنَّ فقراته قد تخشّبتْ لجلوسه الطويل هنا بهذه الوضعية، أو ربّما أنّه شعر بالخجل بعد أنْ عرف ما لحق بزوجته من ذلٍّ وإهانةٍ بغيابه. لم تعرف الإجابة، فقاسم الذي بدا مشغولا بما هو فيه، اكتفى بإيماءةٍ إلى يمينه دون أنْ ينظر إليها. التفتتْ إلى حيث أشار. كان يقف هناك شابا لم تنتبه لوجوده قبل تلك اللحظة. تماسكتْ. شعرتْ بقوةٍ غريبةٍ تدبّ في أوصالها. توجّهتْ إليه بكلّ جوارحها.
- خوية دخيلك، ليش لازمين قاسم؟ جاوبني فدوة أروحلك. انطيني نشدة. وين أروح؟ وين أنطي وجهي؟ وويّ منو أحجي حتى تهدّوه؟
اختفى الشاب واختفى قاسم واختفت الغرفة وظل ضجيج الآسئلة يحرق جمجمتها من الداخل.
دارتْ بعينيها لتتعثر هذه المرة برجلٍ ضخمٍ ذي لحيةٍ طويلةٍ كثّةٍ غلب على سوادها الشيب واصطبغت أطرافها بلون الحناء الأحمر. أخفت اللحية ثلثي وجه الرجل الذي كان يرتدي زيا قندهاريا اسود ويعتمر عمامةً من اللون نفسه. كان يجلس على الأرض متربعًا ويسند الى جانبه سلاح رشاش.
– منو؟ البغدادي؟ قالت باستغرابٍ ممزوجٍ بالتعجب.
كانت وسائل الإعلام تتناقل صور الإرهابي أبي بكر البغدادي زعيم تنظيم داعش وخطاباته طيلة السنوات الماضية. لم يلتقه أحدٌ من سكان المناطق التي اجتاحها مقاتلو التنظيم، لكنها كانت تراه كثيرا في نشرات الآخبار التليفزيونية التي كانت تستعرض جرائمه وفتاواه المتطرفة.
الله لا ينطيك ولا يعافيك. من يوم اللي شفنا وجهك ما شفنا الخير. ساعة السودة اللي شفناك بيها. قالت وهي تشيح بوجهها عنه قبل أنْ تقدح في رأسها فكرةٌ مجنونةٌ. ماذا لو فعلتها؟
شعرتْ أنَّ عليها أنْ تتحرّك بسرعةٍ. تلفتتْ حولها. عثرتْ على قضيبٍ حديدي غليظٍ كان مُلقى قريبًا منها. التقطته. رفعته إلى أعلى ما تصل إليه ذراعاها وهوتْ به بكلّ قوةٍ على رأس البغدادي. كرّرت الضربة مرتين أو ثلاث. لم تتوقف حتى تهشّم رأس البغدادي وتناثرت الدماء في كلّ مكانٍ. سقط جانبًا. بدا أنّه كان يحتضر. ظلّتْ تراقبه باستمتاعٍ غريبٍ حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
شعرتْ بفوضى عارمةٍ تجتاح مشاعرها. لم تعرف سبب خفقان قلبها بهذه السرعة. كانت مشاعر متضاربة تجتاح صدرها. غضبٌ. فرحٌ. حزنٌ. خيبةٌ. خليطٌ غير متجانسٍ.
شعرتْ أنَّها انتقمتْ ممّن كان سبب تعاستها. لحظة واحدة فقط هي كلّ ما احتاجته لتأخذ نفسًا عميقًا يملأ رئتيها بهواءٍ نقيّ يحلّ محلّ الدّخان الأسود الذي كاد أنْ يخنقها.
- الحمد لله هسة برد كلبي، هسة برد كلبي. ردّدتْ بنشوةٍ.
هدأ الضجيج داخل رأسها. بدا وكأنَّ أحدهم أطفأ زرّ مكبّر الصّوت الذي كان ينبعث منه. لا تعرف ما حدث. سرتْ برودةٌ عميقةٌ في جسدها. لم تقاوم واستسلمتْ لحالةٍ من الانطفاء طالت كلّ أجهزتها.
كان أحدهم يهزّ كتفيها ويصفع خدّيها بلطفٍ. فتحتْ عينيها بصعوبةٍ. بدا أنَّ امرأةً مسنّةً كانت تحاول إسعافها برشّ الماء على وجهها.
- اسم الله على كلبج خالة..اكعدي، اكعدي بعد خالتج، شبيج مريضة إنتي؟ لو ما متريكة؟ أجيبلج شي تاكليه؟.
أفاقتْ. اتكأتْ على الجدار الذي ظلّل فورة غضبها وستر جرحها الغائر عميقًا في كرامتها. نفضت التراب عن عباءتها ونهضتْ. كانت تمشي بخطواتٍ مترنّحةٍ بطيئةٍ لكنّها تحفظ الطريق عن ظهر قلب. سرت مبتعدة وعرجتْ نحو مرأب السيارات القريب.
- الطاش…الطاش
كان أحدهم ينادي مشيرًا إلى باصٍ صغيرٍ. رمتْ بنفسها داخله من دون تردّدٍ. احتلّتْ كعادتها المقعد المحاذي للنافذة. لولا وجود النافذة لشعرتْ أنَّ ذلك الباص يضيق بها وبما تحمل من همومٍ وأوجاعٍ. تحرّك الباص. نفثتْ حسرةً طويلةً. لاحقت عيناها الصور التي كان الباص المسرع يخلّفها وراءه. أسواقٌ، مخابزٌ، محلاتٌ، أناسٌ يتبضعون، موظفون، طلاب مدارس بعضهم في عمر ابنائها. كانت عجلة الحياة تدور بمعزلٍ عن عالمها الذي تعيشه في بستانها المهجور تربّي أطفالها الثلاثة وحدها.
الانتظار فكرةٌ مخيفةٌ في عالمها شبه المتوقّف. منذ سبع سنواتٍ وهي لا تعرف ماذا تنتظر. تخشى أنْ تعترف ببعض الأجوبة التي باتت واقع حالٍ. هل تنتظر عودة زوجها؟ هل هو حيٌّ أم ميّتٌ؟
الحياة تمضي وهي هنا في بستانها المنسي تنتظر.. فإمّا أنْ يخضرَّ من جديدٍ أو يموت إلى الأبد.