هــــــــلامٌ أســــــودُ
منال عزّ الدين
في هذا الظلام العابس حيث يختفي الحدّ الفاصل بين الليل والنهار، أحاول فتح عينيَّ علّي ألتقط بصيص نورٍ. أدير رأسي في المكان. لا شيء غير سوادٍ فاحمٍ تزيّنه عشرات الأسئلة التي راحت تغزو رأسي. يطلّ أحدهم برأسه خارجًا بإلحاحٍ شديدٍ فيردّده لساني دون وعي:
أين أنا؟ وما الذي يحصل ؟
أجاهد الإنصات محاولًا التقاط أيّ صوتٍ ينبّئني عن مكاني. لا شيء سوى طنين أذني وصوت أنفاسي يعلو ويخبو. أتكئ على الجدار الرطب البارد. أتحسّس جسدي علّي أُجيب عن ذلك السؤال الملحّ، الذي يصارع أخاه بحثًا عن جواب.
هل فقدتُ بصري أم أنّني في مكانٍ مظلمٍ فحسب ؟
جسدٌ متعبٌ وعظامٌ تئنّ، ورأسٌ مصروعٌ كطبلٍ انتهى القرع عليه منذ وهلةٍ. تمرّ الساعات ثقيلةً وواهنةً تجرّ نفسها. أكاد أجزم بأنّه مرّ على وجودي هنا يومٌ على الأقل. لم يتغيّر شيءٌ. السكون مطبقٌ ومقيتٌ والهواء لزجٌ . يبدو أنّني في مكانٍ مهجورٍ لم تفتح أبوابه وشبابيكه منذ مدّةٍ طويلةٍ. رائحة الرطوبة والعفن تزكمان الأنوف. جاهدتُ نفسي لأقف. جسمي يؤلمني لكنّني تحاملتُ ووقفتُ. مددتُ يدي أمامي أتحسّس ما حولي. درتُ في المكان. لم أتعثر بشيءٍ. غرفةٌ خبيثةٌ خاويةٌ، نخرةٌ، يتساقط طلاؤها كلّما لمستُ أحد الجدران. أكاد أجزم بأنّ تلك الجدران مليئةٌ بالشتائم. حثثتُ نفسي وواصلتُ البحث. تعثّرتْ يداي ببابٍ ثقيلٍ صدئٍ رحتُ أطرقه بما تبقّى لي من قوةٍ.
هل هناك أحدٌ ؟
هل يسمعني أحدكم ؟
ساعدوني أنا حبيسٌ
حبيسٌ ؟؟؟
تنبّهتُ إلى ما قلته للتو
حبيسٌ.. حبيسٌ
أيعقل أنّني في سجنٍ؟
رحتُ أركل الباب بقوةٍ محاولًا تفريغ كلّ مشاعر الرّعب التي تفجّرتْ في داخلي
كنتُ أصرخ
هل يسمعني أحدٌ ؟
تناهى إلى سمعي صوتٌ مكتومٌ حمله الهواء من مسافةٍ بعيدةٍ،
” اصمتْ أيّها الأحمق. هنا لا أحد يسأل”
“سيقتلونكَ ” قال الصوت.
نمتْ بداخلي بذرةُ املٍ وصرتُ أتقيّأ فيض أفكاري
هيه أنتَ، مَنْ أنتَ ؟
هل تعرف أين نحنُ ؟
لِمَ الظلام دامسٌ هكذا ؟
هل تسمعني؟
أجبني ؟
هيه أنتَ أجبني؟
لم يعد الصوت هناك ولم يجبني أحدٌ. تعبتُ من ركل الباب فجلستُ مسندًا ظهري إليه لا ألوي على شيءٍ، عيناي اعتادتا الرؤية في الظلام حتى أنّي بدأتُ أميّز ظلال يدي كلّما حرّكتها أمام ناظري. اتكأتُ على الجدار البارد واعتصرتُ ذاكرتي. حاولتُ جاهدًا اجترار آخر اللحظات التي قضيتها تحت ضوء الشمس. كنتُ برفقة أصدقاءٍ في بيت أحدهم وكان النور يلتحف كلّ شيءٍ ويدفئه. كنّا نضحك ملء أفواهنا وصوت المعالق يعزف على حواف أكواب الشاي. فجأةً سمعنا صوت إطلاق رصاصٍ. تحشرجتْ ضحكاتنا وتيبستْ الابتسامات على وجوهنا. داهمتْ مجموعةٌ من الرجال البيت. بدأوا بضربنا دون مقدماتٍ حتى أنّنا لم نعد نتنبّأ بمصدر الركلة أو جهتها ناهيك عن إحصائها. هوى أحدهم بأخمص سلاحه على رأسي فسقطتُ وارتطم رأسي بالأرضية الرّخام. راحتْ دائرة الضوء تضيق في عينيّ وتضيق حتى اختفتْ تمامًا وفقدتُ وعيي.
هززتُ رأسي علّي أسقط تلك الذكرى الأليمة. تعالى صوت خرخشةٍ واحتكاكٍ من زاويةٍ ما في الغرفة. التفتُ نحو مصدر الصوت. خيّل لي أنّني أرى عيني جرذٍ.
التقطتْ أذني وقع أقدامٍ بشريةٍ هذه المرّة رافقها ضوءٌ خافتٌ تسلّل من تحت إزار الباب المتهالك الصلد. كانت الأقدام تضرب الأرض بقوةٍ كأنَّ صاحبها يسير في بطريقة استعراضية. قمتُ مسرعًا
انت هل تسمعني؟
انت
أرجوكَ أنْ تجيبني عن أسئلتي، هييي.
الصوت يعبر ويبتعد ويخفتُ شيئًا فشيئًا حتى ينقطع فأعود إلى الظلام المدلهم. أعود للبحث في الأرجاء. لكنني لا أجد شيئًا. غرفةٌ خاويةٌ على عروشها.
أشعر بوهنٍ شديدٍ. الجوع يمزّق أحشائي. كم من الوقت مضى عليّ وأنا هنا دون طعامٍ أو شرابٍ؟
حلقي متيبّسٌ كقطعة مطّاطٍ
تغزوني فكرةٌ جديدةٌ
بالكاد أستطيع فتح عينيَّ. أراني أُجرّ على أرضية الشارع، فوق ذلك الإسفلت المتجمّر تحت قيظ الظهيرة، يسحبني أحد أولئك الرجال من ذراعي، باتجاه سيارةٍ رباعية الدفع. يأخذونني سحلًا كأنّني ذبيحةٌ متّجهةٌ إلى مذبحها. تتلاشى الفكرة وأسقط غائبًا عن الوعي من جديدٍ.
أنتشي لفكرة رؤيتي لضوء الشمس مجدّدًا. أرسم شبح ابتسامةٍ على وجهي المتعب. ينتشلني من أفكاري صوت خطواتٍ متعثّرةٍ. قرع أبوابٍ وأقفالٍ تفتح. جلبةٌ تعلو في مكانٍ قريبٍ. إنّه هنا. أنا لا أتخيّله. صرير باب زنزانتي يتعالى، والضوء يغزو مُقلتي لدرجةٍ تمنعني من الرؤية فأحجبه عن عيني بيدي.
مدَّ شابٌ رأسه عبر فرجة الباب قائلًا:
هيّا انطلق أنتَ حرٌّ –
رحتُ أجاهد قدميّ على المسير .أحسستُ بأنّي أتكئ على عودي معكرونة.
- لا أستطيع المشي. انتظرني.
أنهضُ وأعاودُ السقوط. أجاهدُ نفسي زاحفًا نحو بقعة الضوء. أنهضُ مجدّدًا وأسقطُ في بقعة ماءٍ آسنٍ.
أشهقُ مفزوعًا من الصّدمة. مبتلًا بماءٍ باردٍ كريه الرائحة، أُلقي عليَّ من أحد دلاء الحمامات بالتأكيد. أسمع أحدهم يضحك ملء شدقيه، يضحك وشبح كرشه يهتزّ أمامه. أضمّ وجهي بيدي وأهزّ رأسي أسفًا على حلمٍ كان فيه خَلاصي ممكنًا رغم أنّه كان مزيجًا هلاميًا من كوابيس وأحلامٍ وأمنياتٍ نسجتها مخيلتي خلال إغفاءةٍ لا تريح ولا تغني من تعبٍ. أستجمع ما بقي بداخلي من طاقةٍ وأسأله:
- مَنْ أنتَ ؟
- أكنتَ تحاول النجاة في الحلم؟
- …
- صوتكَ وأنتَ تتحدث أثناء النوم ممزوجًا بشخيركَ يبدو مضحكًا.
ابتلعتُ ريقي بصعوبةٍ وأردفتُ:
- أين أنا ؟
- أنتَ حيث لا خروج ولا باب يؤدّي للخارج.
- مَنْ أنتَ ؟
- أنا الذي قد لا يضركَ إنْ بقيتَ هادئًا ومطيعًا.
- ما اليوم؟ وكم الساعة الآن؟
- أنتَ هنا حيث يتساوى الليل والنهار واليوم والأمس ولا شيء يحمله الغد.
- اين انا؟
- كف عن الآعتراض. انت لا وجود لكَ. اسمك ذكرى واهلك ذكرياتٌ.
- لماذا؟ ما ذنبي؟
- قد تكونُ بلا ذنبٍ وجريمتكَ أنّكَ كنتَ موجودًا في الوقت الخطأ والمكان الخطأ.
انسحبَ الشبح بكرشه المتدلّي أمامه واختفى خلف الباب الذي سمعتُ مزلاجه يقفل كتاب حياتي.