ناس العراق

الزحـــفُ نحــو الحيــــــــــاةِ

حراء موسى

“نأتي للحياة كهجومٍ غامضٍ مرتبكٍ على هذا العالم الواقعي الصلب الذي سيذوب قريبًا من بين أيدينا، وكأنّه مصنوعٌ من الحلم.”[1]

أنا مكبل. وقالوا لي إنَّ عليَّ أنْ أخبرهم بما اعرفه. فذلك قد يمنحني فرصةً للنجاة.

الحقُّ أنّي أريد أنْ أنجو، لكن كيف قد تنجو من ذاكرتكَ؟ هل سيهبوننا وصفةً مع الحرية؟

  • قبل الإفطار/ نزهةٌ صباحيةٌ في حديقةٍ، تنسى بها صفعة اليوم الآول.
  • بعد الغداء/ سماع أغنية (العصافير السعيدة) ، تنسى بها ألم أنفكَ المكسور في اليوم الثاني.

اسمع هذه وتعلّم:

  • قبل النوم/ نصف ساعةٍ من التأمّل تملؤكَ بالأمل، تنسى فيها ليلة الأسواط في اليوم الثالث.

قالوا لي إنَّ عليَّ أنْ أعترف. وأقول الحقيقة، فذلك يجعل منّي ربّما إنسانًا.

الحقّ أنّي أريد أنْ أجرّب ذلك، لكن ليس لديّ ما أعترف به، فتشتُ في كُلّ مخابئ ذاكرتي حتى الحميمية منها لكنّ ذلك لم يصل بي لشيءٍ يُذكر. ليس لي إلا عدّة ليالٍ ورصيد كافٍ لليالٍ أخرى، قد أصبح فيها سمادًا حيوانيًا أو رجلًا حُرًا!. لكن أهذا كافٍ للنجاة لو اعترفتُ به؟

لي ليلةٌ صرتُ بها ذئبًا، مسخني الله إلى جروٍ صغيرٍ، رُمَّ عظمي بالجسارة والشراسة قبل اللحم، ثقبتُ حناجر إخوتي بالموت ثُم اقتتُ لحمهم الطري بشراهة رجلٍ على الحياة في صحوة موته. ثُم نمتُ هادئ البال، مُتخم المعدة.. جاءت أمي، عوتْ وبكتْ وظنَّتْ أنَّ ذئابًا معتدية فعلتْ ذلك، مضتْ للانتقام ولم تعُدْ.

كبرتُ لوحدي، صرتُ ذئبًا، ابن غابةٍ أصيل، لا أعرف من الحياة سوى اللحم والنوم والبدر المُكتمل.. كُنتُ أركض نحو ضوئه، أعوي ولربّما أناجي من دون انقطاعٍ. كانت الطيور تهرب من أعشاشها أولًا وتقفز الأرانب من جحورها فزعًا.. حتى صار صوتي جزءًا من نظام الطبيعة. لم يعد يهابه أحدٌ ولا حتى الصغار، وكُنتُ أسأل نفسي كثيرًا، هل يخرُج صوتي من حَنجرتي؟ ، هل لي صوتٌ حقًا؟.

في ليلةٍ أخرى، كُنتُ زغلولًا، مستلقيًا أعلى شجرة سدرٍ ومحاطًا بكومة قشّ دافئةٍ. كُنتُ على قمة العالم، السماء فوقي منبثقةٌ لا شاطئ لها، أقرأ بين سطورها وحيًا يقول: إنّها خُلقتْ لي وحدي.

أردتُ أنْ أرى العالم الذي أملك. زحفتُ نحو مقدمة عُشي، والقشّ يحُكّ جلدي وينغزه. مثل طفلٍ ينزلق من رحم أمه، كُنتُ أزحف نحو الحياة.

كان المشهد أبيض، ظننتُ أنَّ هذه حقيقته أول الأمر، ثُم تفسّخ ببطءٍ إلى ألوانٍ وأشكالٍ ونهاياتٍ. عشبًا وغيمًا وشجرًا. هل هذا حقًا لي؟ أنا فرخ الحمام الأعمى؟.

أردتُ أنْ أغنّي، أقول شعرًا وربّما أبكي.

تقلّبتُ حتى وصلتُ حافة العُش، قلبي ممتلئ حلمًا. ماذا لو حلّقتُ الآن؟ ماذا لو صرتُ جزءًا من هذه اللوحة؟ لي أربع ريشاتٍ على جناحي الأيمن وعشرٌ على جناحي الأيسر، نعم، هي كافيةٌ لتحمل زغلولًا صغيرًا إلى أقصى العالم. ماذا لو سقطتْ؟ سأسقط على العُشب الجميل الأخضر، سيكون ناعمًا على جلدي ودافئ. قلبي يُحدثني: هذا العالم أرقّ من أنْ يؤذي الزغاليل.

فردتُ أجنحتي، دفعتُ جسدي للأمام. لم أرتّبْ، لم أخفْ، كنتُ سعيدًا، مستبشرًا، زغلولًا لا يعرف معنى الشرّ. زغلولًا يظنّ أنّ العالم لا يعرف سوى الطهارة.

كُنتُ أظنّه طيرانًا ذاك السقوط. وذلك البياض الأخير تفسخًا لألوان جمالٍ أخر.

وصرتُ أفعى في ليلةٍ ، فقستْ بيضتي في ربيعٍ ما على سقيفة منزلٍ. زحفتُ تلويًا حتى سقطتُ على أرضٍ عشبيةٍ ، أكلتُ النمل والصراصير وفي مرّةٍ سنجابًا صغيرًا. وكان لوني بنيًا مثل لون التُربة. بقيتُ هنالك حتى بلغ جذعي من الطول مترًا واستطال لساني خمسة سنتيمترات وصار لي صوتٌ غريبٌ كان يُخيفني أحيانًا.

كنتُ ملتفًا على نفسي، نائمًا وديعًا، عندما جاءني طفلٌ وصرخ، تخشّب فؤادي، انتقع قلبي بالخوف عندما ضربني بنبوتٍ حديدي على ظهري، غضبتُ وخفتُ وسابقته بينما كان يركُض في الحديقة، وعلى حين فجأةٍ سقط على ذيلي فأس رجلٍ، كان يريد أنْ يميتني عندما دسستُ سمّي في قدمه..

في كُلّ مرّةٍ مضيتُ للاعتذار وإيضاح موقفي، لاح الفأس وطبع نابي في ساق أحدهم، كانوا لا يحبّون الاعتذار هذا ما بدا لي. على الرغم من ذلك تمنيتُ لو استمعوا لي مرّةً، لو عرفوا أنَّ الطفل هو الذي ضربني أولًا.

وآخرها ليلتي الأجمل تلك التي صرتُ فيها شيئًا يُشبه إنسانًا. لم أفقس أو أطير ولم أنبت في جحرٍ. كان لي منزلٌ وبنطالٌ وقميصٌ.

سرتُ في شارع، بل ركضتُ في الشارع، مثل أبلهٍ، وقد بكيتُ وأنا أفعل ذلك. ثم مضيتُ نحو المنزل، دخلتُ حجرة الطعام، كان هُنالك رزٌ ودجاجٌ على مائدتي وصوت امرأةٍ حنون يتناهى إليَّ من مكانٍ ما يعدني بتحليةٍ، أظنّ أنّه صوت أمي. ملأتُ بطني وأخذتُ أشاهد الصور المعلقة على الحائط، ظهرتُ في معظمها. ركبتُ في إحداها دراجةً هوائيةً وأخرى كنتُ أشوي لحمًا وأنا أبتسم، كان لي ذكرياتٌ لا أذكرها لكنّني كنتُ سعيدًا بها مثل طفلٍ.

جاءتْ أمي مع صحنٍ، قالت: ” اجلس.. واحكي لي ماذا صنعتَ اليوم؟”

“ركضتُ يا ماما في الشارع” صوتي قد تغيّر لصوت مراهقٍ.. ” بكيتُ وأنا أركض” صوتي تغيّر لصوت صبي صغيرٍ.

حملتني أمي بين يديها، سقطتْ دمعةٌ فوق صدغي، وردت بصوتٍ أشبه بالنواح: قتلوا ولدي.


[1] جوزيف كامبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى