التغييب القسري.. مطرقة الديكتاتور (صدام حسين) التي ثبت بها حكمه
ديالى – استبرق الزبيدي
في عام ١٩٨٠، كان مهدي ابراهيم حسين البندر، البالغ من العمر ثلاثة وعشرين عاما، ويتحدر من احدى العوائل الفلاحية الميسورة في قرية الحويش، ٢٠ كلم شمال بعقوبة، طالبا في الدراسات العليا في الموصل وينشط بعقد حلقات دراسية دينية وثقافية في أي مكان يحل به وخاصة في مدينته. لم يكن مهدي وحده الذي ينشط بعقد تلك الحلقات، فآخويه سليم (٢٠ عاما) وصالح (١٨ عاما) كانا يشاركانه نفس الأفكار والتوجهات ويحلان محله بإدارة تلك الحلقات وادامتها، عندما يتغيب.
شاع في ديالى حينها أن مهدي هو مسؤول حلقة حزب الدعوة الإسلامية – أحد أكبر وأقدم الأحزاب السياسية العراقية – في ديالى، ما حوله هو واخوته الى صيد ثمين لرجال الأمن وعناصر حزب البعث المنحل في المحافظة آنذاك، فراحوا يلاحقونهم في كل مكان، فقرار مجلس قيادة الثورة المنحل والذي صدر في نيسان من ذلك العام بتوقيع شخصي من صدام حسين، يقضي بإعدام المنتسبين الى حزب الدعوة والمتعاطفين معهم والمروجين لأفكارهم، بأثر رجعي.
“كان قرار إعدام الدعاة وعوائلهم، مطبقاً منذ اليوم الأول لاعتلاء صدام حسين سدة الحكم. صدور القرار كان اقرارا علنيا منه (صدام حسين) بالقتل اليومي الذي كان يتعرض له جماعتنا واهاليهم منذ نهاية عام ١٩٧٩” يقول عبد الكريم العنزي، قائد حزب الدعوة الإسلامية – تنظيم العراق والذي كان محكوماً بالإعدام حينها بتهمة الانتماء لحزب الدعوة ولعجز السلطات عن الوصول اليه حينها، أُعدم عدداً من اخوتهِ وإحدى اخواته وزوجها.
“ذاك القرار كان حكماً نهائياً بالموت على الدعاة وكل من يمت لهم بصلة بما فيهم اولئك الذين تركوا العمل السياسي قبل ذلك بوقت طويل”.
صار مهدي واخويه مطاردون. وبات رجال الآمن وعناصر الفرقة الحزبية في الخالص يداهمون بيتهم بشكل شبه يومي، الا ان اي من تلك المداهمات لم تسفر عن شيء، فالثلاثة كانوا قد غادروا المنزل وصاروا يتنقلون بين بيوت اقربائهم ومعارفهم في بغداد وديالى.
ضاق والد مهدي ذرعاً بتلك المداهمات وتضاعف خوفه على اولاده البقية فقرر ان يخرجهم من المنطقة. مع بداية عام ١٩٨١، كان والد مهدي قد استأجر مزرعة حمضيات في منطقة السيافية، جنوب بغداد، وانتقل إليها برفقة اولاده وثلاثة من بناته.
“أراد والدي أن ينقذنا فجاء بنا الى بغداد. لم يبق في منزلنا في الحويش غير والدتي واثنان من اخوتي الذين لم يكن لهم اية انشطة سياسية او ثقافية” يقول العميد علي إبراهيم البندر، الأخ الأصغر لمهدي.
“والدي كان فلاحاً. فكر ان استئجار مزرعة والعمل فيها هو واخوتي كان حلاً مثالياً حينها،”.
السيافية، من المناطق الزراعية النائية المشهورة ببساتين النخيل الكثيفة ومزارع الحمضيات الكبيرة وتقع على الضفة الغربية لنهر دجلة، ٢٠ كم جنوب بغداد. صار مهدي يعود الى البيت متى شاء ولآن المزرعة بعيدة عن الأنظار، باتت ملتقى لرفاقه الذين يشاركونه الأفكار والطموحات، يقول البندر.
لم يستمر الهدوء الذي شعر به اخوة البندر ووالده أكثر من عدة أشهر، فالاعتقالات الجماعية وجلسات الاستجواب المكثفة المصحوبة بالتعذيب والتي طالت بعض من رفاق مهدي، قادت الى المزرعة في احدى ليالي أيلول من العام نفسه.
مرة أخرى، لم يكن مهدي موجودا في المزرعة تلك الليلة لكنهم اعتقلوا والده وإخوته فرحان وسليم وصالح وعلي واخواته الثلاثة.
“صحونا في تلك الليلة لنجد عشرات المركبات العسكرية والسيارات المدنية تحاصر المزرعة. اعتقلونا جميعا. لم يكتفوا بهذا، بل اعتقلوا رجال المزارع القريبة منا كذلك” يقول البندر والذي لم يكن قد أكمل عامه العاشر في ذلك الحين.
استمرت جلسات الاستجواب المصحوب بالتعذيب الشديد بالضرب والصعق بالكهرباء والتعليق للإخوة الثلاثة امام انظار والدهم وأخيهم الصغير واخواتهم الثلاثة (٩ سنوات، ١٥ سنة، ١٦ سنة)، لعدة أسابيع.
“ربطوني انا واخواتي وابي بسلسلة مثبتة بدرابزين حديدي يقابل غرفة الاستجواب،” يقول البندر مستذكرا تفاصيل تلك الأيام.
“كل يوم كانوا يأتون بفرحان وسليم وصالح لغرفة الاستجواب التي كانوا يتعمدون ترك بابها مفتوحاً. ثم يبدأون بضربهم وصعقهم بالكهرباء. كانوا يغطون الأرضية والجدران بالفلين الذي كانوا يستبدلونه بنهاية كل جلسة لتلوثه بالدماء”.
حصة صالح وسليم اللذان كانا يشاركان مهدي نشاطاته، من التعذيب كانت أكبر بكثير من حصة فرحان، يقول البندر.
بعد ان يأس المحققين من الحصول على أية معلومات توصلهم الى مكان مهدي، قرروا إطلاق سراح والده واخواته الثلاثة وعرضوا على والده ان يعود برفقة مهدي مقابل إطلاق سراح اولاده الأربعة.
“رفض والدي المغادرة دوني. كنت نائما. ركلني بقدمه لأصحو وسحبني معه” يحكي البندر وهو يحاول تخفيف حدة انفعالاته بنفث دخان سجائره التي كان يشعلها الواحدة تلو الأخرى دون توقف.
كانت تلك الليلة التي غادر فيها علي واخواته ووالده مبنى مديرية الآمن العامة في بغداد اخر عهده بإخوته الثلاثة.
“لم نعرف عنهم شيئا بعد ذلك. أمضينا الليلة في منزل أحد اقاربنا في بغداد ثم عدنا الى الحويش صباح اليوم التالي بخفي حنين،”.
لم تتوقف مداهمات رجال الأمن لمنزل عائلة البندر، فمهدي كان لا زال حراً ويتنقل بين بغداد وديالى.
“كانوا جماعة الفرقة الحزبية (البعثيين) يداهمون بيتنا كل يومين تقريباً. كنا نصحو في بعض الليالي لنجدهم يقفون عند رؤوسنا” يقول البندر.
استمر ذلك الوضع حتى مطلع عام ١٩٨٢، عندما ابلغ رجال الآمن في ديالى والد مهدي بأنه مطلوب في مديرية الآمن العامة في بغداد. لم يملك الرجل غير الامتثال للأوامر فذهب ولم يعد.
كان مهدي لا زال حراً. لم تتوقف المضايقات اليومية التي كانت تتعرض اليها عائلته كما لم تتوقف المراقبة.
“كانت هناك مجموعة من رجال الأمن يستخدمون سيارة حكومية لاند كروز حمراء مكلفون بمراقبتنا. تلك السيارة ظلت تراقب بيتنا وبيوت جيراننا طيلة الوقت،” يقول البندر.
“بات الناس يتجنبونا. فمعرفتنا صارت شبهة ومرافقتنا تحولت الى تهمة قد تكلفهم حياتهم. كانت معاناة حقيقية تلك التي عشناها لسنوات طويلة”.
اعتقل مهدي في بغداد بعد اعتقال والده بعام تقريبا. كان على موعد مع فاضل عبد الحسين، أحد اصدقائه في احدى المقاهي في منطقة العلاوي، وسط بغداد عصر أحد أيام شهر شباط عام ١٩٨٣. عرف رجال الأمن بطريقة او بأخرى ان مهدي سيلتقي بفاضل الا انهم لم يكونوا يعرفون موعد اللقاء أو مكانه. اعتقلوا فاضل وعذبوه فأعترف بموعد اللقاء ومكانه ، فنصبوا كمينا لمهدي واعتقلوه.
لم تعرف عائلة مهدي عن رجالها الخمسة شيئا لأكثر من عشرين عاماً. أخبرهم أحد ضباط الامن في تلك السنوات، ان الخمسة أعدموا، الا انهم لم يصدقوا فالشخص الذي أخبرهم لم يقدم لهم دليلاً واحداً على ادعائه.
في آذار ٢٠٠٣ سقط نظام البعث وسقطت معه جمهورية الخوف التي حكمت العراقيين بالنار والحديد لخمسة وثلاثين عاماً. اتصل أحد معارف العميد علي به ليخبره بعثوره على وثائق تكشف عن مصير والده وإخوته. قال انهم حصلوا على ملفات مديرية أمن قضاء الخالص وان الوثائق تكشف عن أن والده واخوته الأربعة قد أعدموا شنقاً حتى الموت، خلال الفترة الممتدة بين عامي ١٩٨٢ و١٩٨٣.
شهادات وفاة الرجال الخمسة التي استعرضها علي، تكشف بشكل لا لبس فيه ان فرحان وصالح قد أعدما في شهر اب عام ١٩٨٢ بفارق يومين بينهما، اما والدهما فقد أعدم في شباط ١٩٨٣، ليلحق به مهدي بعد شهرين. الشهادات تكشف ان سليم كان اخر من بقي حياً وأعدم بعد مهدي بثلاثة أشهر.
العنزي يقول ان الفترة الممتدة من ١٩٨٠ وحتى ١٩٨٣ كانت هي الأقسى والأشد على الدعاة وانهم خسروا في تلك السنوات الثلاثة الألاف من اعضاء التنظيم وقياداته وعوائلهم واقربائهم الذين غيبوا وأعدموا دون ان يعرف احدا عنهم شيئا.
“بحثنا لسنوات في المقابر الجماعية بعد سقوط النظام. لم نعثر على رفات والدي او اي من اخوتي الأربعة،” يقول البندر.
“يأسنا من العثور عليهم فبنينا لهم قبورا رمزية في النجف عام ٢٠٠٩ وصرنا نزورها بين الحين والآخر.
“كانت والدتي تردد دعوة واحدة طيلة السنوات التي سبقت ٢٠٠٣. كانت تقول يا راد يوسف ليعقوب، رد لي وليداتي. كانت تتأمل عودتهم حتى اخر لحظة لكن مشيئة الله مضت.
“لم يعودوا ولم نعثر على رفاتهم حتى اليوم،”