قصصنامقالات

فخار ديالى: تراث سومري يقاوم الاندثار                                     

في قرية هادئة تتوسط منازلها البسيطة بين اشجار النخيل والبرتقال جنوب محافظة ديالى حيث يعيش الحاج حسين الكواز ذو 89 عاماً يبدأ صباحه متجهاً بخطواته المثقلة نحو ورشته الصغيرة حيث تفوح منها رائحه الطين الرطب بظهرٍ منحني يجلس خلف عجلة الفخار وبلمسات هادئة ودقيقة يبدأ عمله مستخدماً إبهامه وأصابعه يضغط برفق على الطين اثناء دوران العجلة ” ترد عافيتي عندما اشم رائحة الطين، هذه مهنتي ورثتها اباً عن جد ولا أستطيع تركها لكن صحتي لم تعد كما السابق حالياً يقتصر عملي بالأشراف على العمل وتقديم الارشادات” اثناء حديثه هذا لشرق العراق لم تفارق عيني العم حسين قطعة الطين التي على العجلة ويديه تتحرك لأعلى واسفل وتضغط تارة على الطين من الامام وأخرى من الخلف، بعد دقائق يرفع يديه من الفخارة ويبدا دورانها يبطئ شيئاً فشيء “الان سأقوم بوضع بعض النقوش عليها” و ثم يمرر يديه على الفخارة مرات عديدة وبيده سيخ حديدي اشبه بالقلم يستعمله في الزخرفة، يدياه اللواتي تظهر تجاعيدهما بوضوح ولا يستطيع السيطرة على تحركهما فهما يرتجفان قليلا اثناء نقشه على الفخارة بابتسامة “كنت اسرع في هذا الجزء من العمل لكن العمر له تأثير”.

الصورة التقطت داخل ورشة العم حسين الكواز وابنه مهند في حي الصناعة الثالثة - بعقوبة بعدسة المصور : علي مرهون

العم حسين الكواز اكتسب لقب عائلته وهو الكواز من مهنة عائلته هذه التي توارثوها عبر الأجيال ويسعون للحفاظ عليها في زمن التقدم الصناعي والتكنولوجي “مهنتنا قاربت على الاندثار بسبب التطور، لكني سأستمر في العمل فيها الى ان توافيني المنية لإنها مهنة سومرية قديمة اعتز بها”.

العم حسين حاملاً قلماً حديدي ينقش بيديه على الزهرية خطوط هندسية متناسقة ليضفي على مظهرها رونقاً جمالياً يجذب المتبضعين – الصورة بعدسة علي مرهون

عيناه اللواتي بدا جفنهما منخفض قليلا ورسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة “هذه المهنة السومرية ورثتها من والدي في الخمسينيات وسأورثها لأبنائي” يقولها العم حسين وعيناه تشعر بهما فخر كبير، ثم يعود لينهمك بتحريك أصابعه برشاقة على الفخارة التي تدور بسرعة قبل ان يقوم بتركها ليتباطآ دورانها شيئا فشيء، ثم ينهض بظهره المنحني قليلا ويمسك بعض الاواني الفخارية التي يقوم بترتيبها، يقاطع سكوته صوت ابنه مهند الكواز وهو يدخل المحل  قائلا  “كيف حالك يا شيخ المهنة ” ومهند الذي تعلم المهنة من والده صار آخر حرفيي الكوازة في محافظة ديالى “هذه تعني لي حياة كاملة” يقولها وهو يشير الى قطعة فخارية كان يحملها بيده .

مهند الكواز داخل ورشته الواقعة في مدخل الصناعة الثالثة-بعقوبة، وهو يصنع فخارة جديدة التقطت الصورة لشرق العراق بعدسة مروان الفجر

عندما كان مهند طفلا كان يرافق والده لمكان عمله ويساعده ببعض اعماله “كنت اراقب حركات يده لأتعلم ” يقولها وهو يشير الى يد والده “كانت تتحرك على القطعة وكأنها ترقص خفيفة وسريعة، ولكن اليوم والدي تعب ويده بدأت تتحرك بشكل ابطئ “.

يتحرك مهند نحو القطعة الفخارية التي أكملها والده ليقوم بحملها ونقلها لمكان أخر لتجف “هذه المهنة تتوارثها الأجيال مثلما تورث البساتين والمنازل في المحافظة” يقولها مهند الذي بدا يمارس مهنة الكوازة التي يعود تاريخها الى الشعوب السومرية والبابلية في بلاد ما بين النهرين.

الصورة في احدى قرى حي الصناعة الثالثة بعقوبة داخل ورشة العم حسين الكواز وولده مهند، يظهر في الصورة العم حسين وهو يشرف على عمل مهند ، التقطت الصورة بعدسة علي مرهون.

في تلك الحضارات الغنية بالتراث، كان الناس ينحتون الطين لصناعة الفخار وتشكيل المجسمات الهندسية التي كانت تُحيي التقاليد القديمة. البعض يتساءل كيف يمكن أن تُثري الحداثة الحرف اليدوية ورغم ظهور آلات حديثة لصناعة الفخار بفضل التطور الثقافي والتقني، فإن مهند وعائلته لا يزالون يلتزمون بالطرق التقليدية المتوارثة .

يصف مهند طريقة العمل لشرق العراق: “نبدأ العمل بجلب التراب الأحمر وتخميره، مع التأكد من خلوه من الأملاح، ثم نضغطه بالأقدام عند بزوغ أول خيط من خيوط الفجر، نشعل النار في الفرن، ونقوم بتدخين الفخار لمدة يومين. بعد ذلك، نشعل نارًا قوية ونتركها مشتعلة لمدة 13 ساعة تقريبًا حتى تجف القطع تمامًا وتصبح جاهزة”.

في الصورة يقف مهند الكواز امام الفرن الذي يقع في الباحة الخارجية للورشة – التقطت الصورة لصالح موقع شرق العراق بعدسة مروان الفجر

التراث والحديث: تتمسك العائلات القديمة بالأواني الفخارية

بالرغم من تنوع الأدوات المنزلية الحديثة المصنوعة من الزجاج والسيراميك والرخام والجرانيت، لا تزال بعض العائلات تفضل شراء الأواني الفخارية التقليدية. ويبين مهند الكواز إلى أن “معظم العائلات القديمة في محافظة ديالى تحافظ على عادة شراء الفخاريات التي تستخدم في عديد من مناحي الحياة لاسيما (الحب) هو وعاء فخاري كبير لحفظ ماء الشرب، ويستخدم لتبريد الماء صيفاً، ويشير مهند ان “الاقبال على الشراء يزداد خاصة خلال المناسبات الدينية مثل شهر محرم الحرام، وفي اوائل شعبان حيث تقتني النساء الآواني الفخارية والتي تعد جزءاً أساسياً من لوازم صينية الزكريا، والطلب الأكبر يأتي من أصحاب المشاتل وسوق الغزل، حيث تعد التنكة والحب والسنادين من الأواني الأكثر طلبًا.”

يضيف حسين القيسي، وهو صاحب مشتل في ديالى: “أتردد هنا بشكل متكرر لشراء السنادين المحلية، فهي أفضل من الإيرانية المستوردة لأنها تراعي نمو النبات بشكل أفضل. حيث تتميز بقدرتها على توفير تهوية جيدة وتصريف الماء الزائد بفضل وجود ثقوب في قاعدتها.”

ويشير مهند الى تمسك العوائل العراقية بشراء الفخاريات بقوله”يبقى الفخار خيارًا مفضلاً لجودته التقليدية وجماله الطبيعي، حيث يدمج بين الفائدة العملية والتراث الثقافي، مما يجعله محببًا لدى العديد من الأسر والمشاتل التي تقدر قيمته في تعزيز جودة الحياة والحفاظ على الإرث الثقافي”.

تمسك الكوازين بفنهم: تحديات وعزيمة في ظل غياب الدعم 

الصورة في احد قرى حي الصناعة والثالثة – بعقوبة يظهر مهند الكواز حاملاً احدى السنادين الفخارية ليتأكد من جفافها تماماً بعد تعريضها لنار والشمس على مدار يومين \ التقطت الصورة بعدسة مروان الفجر لصالح موقع شرق العراق

مع أنعدام الدعم الحكومي، خاصة فيما يتعلق بتوفير النفط اللازم لتشغيل الأفران، لا يزال الحرفيون مصممين على الحفاظ على هذه الحرفة. يقول مهند بنبرة يملاؤها الحزن اثناء تجوله وهو يعرض نتاجاتهم: “إذا توقفنا عن العمل، سينتهي كل شيء ويندثر هذا النوع من التراث في ديالى. انه تراث آبائنا وأجدادنا منذ زمن بعيد، ويجب علينا الاهتمام والمحافظة على حرفتنا وتوريثها لأبنائنا ليواصلوا من بعدنا. نحن ملتزمون بحماية هذه المهنة من الاندثار ونقلها إلى الأجيال المقبلة.” على الرغم من الصعوبات، يظل الكوازون مصممين على مواصلة العمل في صناعة الفخار.

انتجت هذه المادة بدعم من مشروع Qaribmedia

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى