تقاريرمقالات

محراث نار لا تنطفئ .. رحلة بحث عن رجل اختفى وكأنه لم يولد يوما

 

ديالى – استبرق الزبيدي

في تشرين الأول ٢٠١٦، كانت محافظة ديالى تشهد هدوءً نسبيا بعد استعادة القوات العراقية السيطرة عليها وطرد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من حواضرها، الا ان هذا الهدوء كان يتعكر بين الحين والآخر بهجمات خاطفة ينفذها مقاتلو التنظيم ضد القوات المنتشرة هنا وهناك وخاصة في الضواحي والأرياف. بدأت المعلومات الاستخبارية تتوالى من عدة مصادر مشيرة الى ان المنفذين كانوا يتسللون عبر بحيرة حمرين لتنفيذ هذه الهجمات، ورغم ان القوات العراقية بمختلف صنوفها كانت قد قطعت معظم خطوط الأمداد الا ان المسلحين كانوا يحصلون على ما يلزمهم من مؤن وذخيرة بطريقة او بأخرى. كثف ضباط الاستخبارات جهودهم لتحديد خط الأمداد الذي قد يكون فاتهم في زحمة انشغالهم بالتركيز على الخطوط الرئيسية. المعلومات راحت تشير الى خط امداد ثانوي يديمه بعض المتعاونين من أهالي القرى الجنوبية لناحية السعدية، يقول أحد ضباط الاستخبارات الذي خدم في ديالى تلك الفترة.

يقول الضابط الذي فضل عدم ذكر اسمه، ان بعض المتعاونين كانوا يخفون المؤن والذخيرة في نقاط معينة متفق عليها مع المسلحين عند الضفة الجنوبية لبحيرة حمرين ليأتي المسلحين ليلا عبر البحيرة ويجمعونها. اتخذ أحد الضباط من فوج طوارئ ديالى السادس الذي كان منتشرا في المنطقة حينها، قرارا بقطع خط الأمداد المذكور. كان القرار يقضي بنصب كمين للمسلحين وقتلهم او اسرهم ثم تتبع الخيوط وصولا الى معرفة المتعاونين منهم من أهالي القرى المجاورة.

صار القرار ان تكمن قوة من الفوج المذكور في المنطقة التي تردد ذكرها في التقارير الاستخبارية مساء العاشر من الشهر حيث كان الجو صحوا ودرجات الحرارة معتدلة، فالشتاء لم يحط رحاله بعد في هذه المناطق. وصلت القوة المكلفة بالواجب الى المكان بعد الغروب مباشرة وكمنت هناك قريبا من أكياس المؤن والعتاد.

كانت المنطقة مظلمة الى حد ما ومكشوفة الا ان كثرة السواقي الجافة الممتدة طولا وعرضا في المناطق الزراعية القريبة من البحيرة، امنت مخابئ جيدة للجنود. ساد الهدوء المكان ولولا انفاس عناصر القوة الذين انتشروا في المكان لبدا المكان مهجورا منذ سنوات. لم ينتظر انتظار الكامنين طويلا، فبعد اقل من ساعتين بدد الصمت صوت محرك قارب صغير قادم من بعيد. راح الصوت يقترب شيئا فشيئا حتى بدآ عناصر القوة يميزون ملامح القارب القادم نحوهم بسرعة ثابتة. توقف القارب عند الضفة المواجه لهم وقفز منه اثنين من المقاتلين وتوجهوا مباشرة الى حيث اخفيت أكياس المؤنة. بات جميع المسلحين الخمسة في مرمى نيران عناصر الكامنة. اعطى امر القوة الآمر بفتح النار. اشتبك الطرفان لعدة دقائق قبل ان يستدير القارب ويبتعد سريعا ويختفي. أحجم الطرفان عن إطلاق النار بعد ان صار الجميع خارج مرمى النيران واستعادت المنطقة هدوئها.

الاشتباك الخاطف الذي شهدته المنطقة أسفر عن مقتل اثنين من المسلحين واحد عناصر القوة الكامنة، يقول الضابط.

“الجميع علم في تلك الليلة ان الآمر لن ينتهي عند هذا الحد، فعنصر القوة الذي استشهد خلال تنفيذ العملية من أهالي ديالى ويتحدر من احدى أكثر عشائرها نفوذا في المحافظة” يقول الضابط.

لم يخطئ ضابط الاستخبارات في توقعاته، فبعد اقل من ساعتين ودون اجراء اية تحقيقات حول أسباب فشل الكمين؟ أسباب غياب القوات الساندة للقوة المكلفة بتنفيذ العملية؟  وهوية الجهة التي أصدرت الأوامر بتنفيذ العملية؟ تشكلت قوة قوامها عشرات المقاتلين من أهالي ديالى والذين يخدمون في مختلف التشكيلات الأمنية المحلية داهموا قرية جبور حمرين القريبة والقرى المجاورة واعتقلت جميع الرجال.

“في تلك الليلة اعتقلوا ٦٥ رجلا من أهالي قرى جنوب السعدية، بينهم والدي” يقول يحيى، أحد أهالي قرية جبور حمرين.

“قوات بزي رسمي اسود وبمركبات حكومية، اقتحمت منزلنا فجأة وانتشرت في ارجائه. كانوا يوجهون أسلحتهم الي رؤوس اخوتي الصغار ويصرخون بوجه والدتي ثم جروا والدي خارجا ولم نره منذ ذلك الحين.

“كنت في بغداد حينها ولولا ذلك لكنت الآن معه” يقول يحيى.

دائرة عنف لا تنتهي

تعد مناطق حوض حمرين من أكبر وأخطر معاقل الجماعات المسلحة المتطرفة السنية والكردية منذ عقود حيث تؤمن وعورة المنطقة وتضاريسها المتنوعة للمسلحين، شبكة من الممرات الآمنة التي تنفذ عبر سلسلة من الوديان والتلال. يمثل تأمين هذه المناطق التي تمتد لمسافة ٢٥٠ كم تقريبا بشكل شعاعي، تحدياً كبيراً للحكومة العراقية منذ ٢٠٠٥.

على الرغم من الانخفاض المعنوي لمعدل الهجمات التي تنطلق من هذه المناطق منذ ٢٠١٧ بعد استعادة القوات العراقية السيطرة على جميع البلدات والمدن التي استولى عليها التنظيم، الا ان مناطق حوض حمرين لا زالت تشهد عمليات كر وفر بين الطرفين.

“الاعتقال الجماعي والعشوائي” الذي شهدته قرية جبور حمرين – كما وصفه ضابط عسكري كبير خدم في المنطقة في تلك الفترة – هو “تكتيك كانت تعتمده بعض القوات المحلية كرد فعل على مقتل احد منتسبيها”.

يقول القائد العسكري الذي تحدث شريطة عدم ذكر اسمه لحساسية الموضوع، ان ما حدث في قرية جبور حمرين كان نوع من “العقوبة الجماعية” لأهالي القرية وان العديد من قرى المنطقة شهدت اعتقالات مشابهة في تلك الفترة.

المفاجأة ان تلك الاعتقالات لم تكن تتم بناء على أوامر قضائية كما لم تتم بالتنسيق مع قيادة عمليات ديالى، السلطة الأمنية الأعلى في المحافظة في ذلك الوقت، بحسب القائد العسكري.

يقول القائد:”لقد عانينا كثيراً من هذا الموضوع في محافظة ديالى خصوصاً. كان الوضع فوضوياً ولم تتمكن أي من قواتنا الإتحادية من السيطرة عليه او وضع حدا له”

“بعض المسؤولين المحليين كانوا يستخدمون سلطاتهم لتنفيذ هكذا اعتقالات دون التنسيق مع قيادة العمليات. حتى اننا كنا نستعين ببعض القيادات السياسية في بغداد لكبح جماح هؤلاء، لكن هذا لم يحل دون وقوع ضحايا بين فترة واخرى”.

رحلة البحث عن والد يحيى

يحيى الذي كان في بغداد عندما اعتقلت القوات المذكورة والده عاد سريعا في اليوم التالي أثر اتصال والدته التي كانت منهارة. يقول يحيى ان جميع افراد عائلته كانوا مرعوبين فعناصر القوة التي داهمت منزلهم كانوا “عدوانيين ومتهسترين” حتى انهم كانوا يوجهون أسلحتهم لرؤوس والده واخوته مهددين بقتلهم في حال أبدوا اية مقاومة

بدأت رحلة يحيى بالبحث عن والده في مراكز الشرطة ومقرات الأجهزة الأمنية المحلية والإتحادية والسجون والمعتقلات الرسمية الموجودة في ديالى ثم امتدت لتشمل بغداد والمحافظات القريبة. لم يحصل يحيى على نتيجة كما لم تثمر الوساطات التي لجآ اليها بما يطفئ نيران خوفه الذي تفاقم وصار يخنقه بعد الافراج عن معظم المعتقلين عدا ثلاثة، كان والده واحدا منهم.

خوف يحيى ولهفته على اية اخبار تكشف له عن مصير والده وضعه تحت رحمة أحد المبتزين الذي طالبه بدفع أربعين ألف دولارا مقابل إطلاق سراح والده. لم يتردد يحيى بتأمين المبلغ المطلوب خلال يومين بعد ان تلقى مكالمة من المبتز الذي سمح له بالحديث مع والده لعدة دقائق.

“والدي قال لي اشتروني. كيف لي ان اتردد بتأمين المبلغ ووالدي يطلب مني إنقاذه وشراء حياته بالمال” يقول يحيى.

لم يزود المبتز يحيى بآية تفاصيل. طلب منه ان يترك المبلغ في مكان ما ويغادر مع وعد بالأفراج عن والده بعد ساعات، الا ان الرياح لا تأتي دوما بما تشتهي السفن فما ان ترك يحيى الأربعين ألف دولاراً في المكان المتفق عليه حتى اختفى المبتز واقفل خط هاتفه للأبد ولم يسمع يحيى منه شيئاً منذ ذلك الحين.

واصل يحيي البحث عن والده لسنوات حتى انه اضطر لرفع قضية “قيمومة” ضد والده ليعرف ان كان أسمه موجوداً ضمن قائمة المطلوبين للأجهزة الأمنية بتهم إرهابية، ام لا.

“وحتى هذه المحاولة لم تسفر عن شيء”، فأوقف رحلته واستسلم لليأس.

“والدي اختفى وكآنه لم يكن موجودا في هذا البلد يوما. اسمه غير موجود في سجلات أي من السجون او المعتقلات وجميع الأجهزة الأمنية المحلية والإتحادية تنفي معرفتها بمصيره” يقول يحيى.

“كيف يمكن لاحد منا ان يتقبل فكرة ان أحد احبائه الذي كان يشاركه كل تفاصيل يومه قد اختفى وكأنه لم يكن موجوداً يوماً ؟

“موت أحد احبائنا امام اعيننا ارحم بكثير من هذا الغياب المفاجئ والقاسي وغير المبرر،”.

اختفاء قسري ام اختطاف؟

لا تتوفر إحصاءات دقيقة حتى اليوم تكشف عن حجم الضرر الذي لحق بضحايا هذا النوع من الجرائم في العراق، الا ان لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري في تقريرها الصادر في نيسان ٢٠٢٣، قدرت ان ٢٥٠ الفا الى مليون عراقيا كانوا “ضحايا للاختفاء خلال العقود الخمسة الماضية بما في ذلك الاختفاء القسري”. تقرير اللجنة أكد ان الالاف من العرب السنة تعرضوا للاختفاء القسري خلال الفترة الممتدة من ٢٠١٤ الى ٢٠١٧ ابان العمليات العسكرية التي شهدتها البلاد لطرد المسلحين من المدن والنواح التي سيطروا عليها في صيف ٢٠١٤.

وكشفت احصائية حديثة للجنة الدولية للصليب الأحمر في بيان اصدرته بمناسبة اليوم العالمي للمفقودين ٣٠ اغسطس ٢٠٢٤، ان ” اللجنة وثقت ٦١٨ حالة جديدة من الاختفاء القسري ما بين شهري كانون الثاني وحزيران من عام ٢٠٢٤ الجاري، في حين جرى إيضاح مصير ومكان وجود ٢٠٨ أشخاص”.

 

عدم وجود اسم والد يحيى في السجلات الرسمية لوزارتي الداخلية والعدل او مجلس القضاء المعلى، كجان او مجني عليه وضع يحيى وعائلته تحت طائلة معاناة من نوع اخر. فعدم تسجيل والد يحيى في السجلات الرسمية للدولة العراقية كمتهم، او مختطف، او مفقود، او متوف حال دون تصرف عائلته بأي من ممتلكاته كما انه حرمهم من الحصول على أي من الحقوق الممنوحة لضحايا الإرهاب والعمليات العسكرية الخاطئة.

يقول يحيى ان أحد القضاة رفض طلبه واخوته ووالدته لإعلان والده مفقوداً او مختطفاً رغم تقديمهم كل الأوراق المطلوبة لإثبات الحالة

“القاضي قال لي: كيف لي ان اعرف انكم لم تقوموا بتسفيره او انه لم يكن متورطا مع داعش؟”

“آن كان والدي متهماً، فليثبتوا هذا وان كان بريئاً فعليهم ان يحددوا وضعه القانوني لنمضي جميعا قدما ونخرج من هذه الحلقة المفرغة” يقول يحيى.

التوصيف القانوني لوضع والد يحيى احد اكبر التحديات التي تواجه السلطات العراقية والآلاف من عوائل ضحايا الاختفاء القسري، فعلى الرغم من انضمام العراق الى الأتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الأختفاء القسري منذ عام ٢٠١٠ وإقرار الحكومة العراقية بارتكاب بعض أجهزتها التنفيذية وجماعات محلية مرتبطة بها لخروقات كبيرة ضد مدنيين في مناطق الصراع خلال السنوات الماضية بضمنها جرائم اختفاء قسري ومحاولتها السيطرة عليها والحد منها والسعي لتعويض ذوي الضحايا، الا ان جميع محاولاتها ما فتأت تصطدم بغياب التشريعات القانونية اللازمة لتوصيف جريمة الاختفاء القسري، وبما ان القانون العراقي النافذ يخضع للقاعدة الفقهية القانونية التي تقول ان لا عقوبة دون نص، فآن الاختفاء القسري غير مجرم وفقا للقانون العراقي ولا يشمل ضحاياه وعوائلهم بآية حقوق معنوية او مالية.

يقول الحقوقي صلاح مهدي، مدير مكتب المفوضية العراقية العليا لحقوق الآنسان في ديالى، ان معظم عوائل الضحايا يسجلون أبنائهم المغيبين قسرياً كمختطفين او مفقودين عند ابلاغ مراكز الشرطة بالحالة، “وهذا يغير التوصيف القانوني للحالة ويحول دون توفر إحصاءات رسمية دقيقة لضحايا جرائم الأختفاء القسري”.

“يوجد حالات اختفاء (قسري) في ديالى لكنها غير مسجلة (رسمياً). بعض عوائل الضحايا لا يبلغ عن الحالة من حيث المبدأ، او يسجلها على انها حالة فقدان او اختطاف لغرض الحصول على التعويض” يقول مهدي.

الإبلاغ رسمياً عن حالات الأختفاء القسري يشترط ذكر الجهة المتورطة وهذا ما تحجم عنه معظم عوائل الضحايا خشية الأنتقام. يقول مهدي، ويلفت الى ان حالتي الفقدان والخطف محسومتان من حيث التوصيف القانوني وضحاياهما مشمولين بالتعويضات المالية والمعنوية “فتفضل معظم العوائل تسجيل الضحية كمفقود او مختطف”.

في عام 2019 تلقت المفوضية العليا لحقوق الانسان في ديالى اكثر من ١١٠٠ شكوى يدعي أصحابها ان واحد من اقربائهم او اكثر تعرضوا للأختفاء القسري خلال السنوات الخمسة الماضية، يقول مهدى.

٣٨ فقط من الشكاوى التي أرسلتها المفوضية الى مكتب المدعي العام والأجهزة الأمنية، وردت إجابات بخصوصهم فيما نفت الأجهزة الأمنية معرفتها بآية معلومات تتعلق بالبقية.

رحلة البحث عن والد يحيى انتهت قبل اشهر بأستسلامه وعائلته ورضوخهم للأمر الواقع بتسجيل والدهم مفقوداً في السجلات الرسمية، ليسدلوا الستار على حياة رجل ولد قبل ٦٢ عاما واختفى دون اثر تاركاً ورائه زوجة وخمسة أبناء لم تعد حياتهم لسابق عهدها منذ ثمانية سنين.

 

هذه المادة أنتجت بدعم من مشروع Qarib media بدعم من CFI و  AFD

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى