ديالى-طيف السومري
يجلس في مقهى على مقعد خشبي قديم وامامه طاولة صغيرة عليها استكان شاي، صوت ارتطام معالق الشاي بالزجاج تسمعه وكأنه موسيقى لأصوات الجالسين الذين يتحدثون لغات متنوعة في هذا المقهى الذي يقع بمدينة خانقين بمحافظة ديالى سيجيب عليك الناس بأي لغة تتحدثها وكأنه يختصر كل العالم في هذه المدينة التي تتلاصق حدودها مع الحدود الايرانية يقطن المئات من الكاكائيين الذين ستميزهم من شواربهم الكثيفة.
الكاكائيون يعيشون في العراق وإيران منذ آلاف السنين، ورغم ذلك يجهل كثيرون تفاصيل معتقداتهم وطقوسهم لأنها ديانة مغلقة وغير تبشيرية كما يروي سعد سلوم في كتابه “الأقليات في العراق” ويؤكد اختلاف الباحثين والمؤرخين حول هذه الديانة بسبب الغموض والسرية والرمزية التي تحيط بعقائدهم فضلاً عن تداخل الأديان في تلك العقائد، ويوضح سلوم ان الكاكائية بدأت كتنظيم اجتماعي قائم على الشباب والفروسية ثم دخلت إليها مزيج من الأفكار والعقائد المُستمدة من التصوف والتشيع والمسيحية، لذا فهي خليط من الأديان والمذاهب، في منطقة غنية بالعقائد والجماعات الدينية.
ويشير سلوم ايضاً لروايات اخرى حول نشأة الكاكائية على إنها وُلدت نتيجة الصراع بين الحكام الأمويين وجماعة الكهنة الزورواسترايانزم أي إنهم مزيج من الزورواسترايانزم والاسلام الشيعي.
شاخوان ارجمان، البالغ من العمر ٣٠ عاماً، والحاصل على ماجستير تاريخ قديم وهو من الكاكائيين الذين يعيشون في العراق “حياتي طبيعية جدا وأحبها وخاصة عندما أكون مع اصدقائي من المسلمين والمسيحيين ومختلف الطوائف والعقائد” يبتسم ” لا امتلك اي خلاف معهم وتجمعني فيهم محبة كبيرة” يساعد شاخوان اخيه في العمل في مكتب عقارات في أحد اسواق خانقين.
حياة شاخوان لم تكن هادئة فقد تنقل بين الكثير من المحافظات العراقية ” لدي اصدقاء من كل المكونات والطوائف” يقولها شاخوان وعلى وجهه ابتسامة تشعر فيها نوعاً من الفخر ويكمل “جربت الدليمية في الرمادي وما زلت استذكر طعمها وزرت بغداد ايضا وبعض محافظات الجنوب”
يعاني الكاكائية في العراق من بعض الصور النمطية والاخبار الزائفة التي تنتشر عنهم التي يصفها شاخوان “بالخبيثة وغير الصحيحة اطلاقا” يسكت قليلا ثم يضيف ” هناك كراهية كبيرة ضدنا”
أعدادهم في العراق
يتوقع ارجمان ان تعدادهم يتراوح من 400 الى 500 الف نسمة في عموم العراق وفي محافظة ديالى من 15 الى 25 الف نسمة يسكنون في مناطق بلدروز وقزانية في قضاء مندلي وخانقين وسابقاً جلولاء قبل التهجير والاحداث التي وقعت، إذ لا وجود لإحصائية دقيقة على الاطلاق، بينما يؤكد رجب عاصي كاكائي رئيس منظمة ميثرا للتنمية والثقافة اليارسانية انه زار بنفسه كل مناطق سكن الكاكائية في العراق ويرجح ان عددهم في العراق حوالي 120 الف نسمة وفي محافظة ديالى يتراوح عددهم من 7 آلاف نسمة الى 7500 نسمة، وهي ايضاً احصائية ليست دقيقة وانما الأقرب الى الحقيقة، بينما يقول سعد سلوم في كتابه “الأقليات في العراق” ان عددهم في عام 1928 قُدر بـ 20 الف نسمة وتُشير احصائيات حديثة تعود لعام 2011 ان عددهم بلغ 200 الف نسمة وما هو اكيد انهم جماعة ليست بالقليلة ابداً.
كان ولا زال العراق أكثر البلدان تنوعاً وتعدداً في الاديان والطوائف وتحديداً مناطق شمال العراق التي تشتهر بتعدد القوميات والاديان لما فيها من مدن ومناطق تاريخية عريقة سكنها الكثير من الناس
البعض من هذه الاديان ثَبَتَتْ عروقها جيداً في ظل التطور الراهن وبلغت المناصب والكلمة والبعض منها كانت تواجه تحدي الغياب والاندثار والهجرة حتى؛ كالديانة الكاكائية في العراق.
شوارب الكاكائيين وموسيقاهم: التمسك بالطقوس الفريدة
الكاكائيون يتميزون بتفاصيل فريدة في حياتهم الدينية والاجتماعية، منها شواربهم الكبيرة التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من هويتهم. يُذكر أن حادثة أثارت جدلاً منذ سنوات حين قام شرطي بحلق شارب أحد الكاكائيين نتيجة خلاف عائلي، مما سلط الضوء على أهمية هذا الرمز لدى المجتمع الكاكائي.
إضافة إلى ذلك، تحتل الموسيقى مكانة مركزية في الطقوس الدينية اليارسانية، وخاصة في المناسبات مثل أعياد نوروز. رجب عاصي يشير إلى أن الموسيقى تمتد بعمق في المحافل الروحية اليارسانية، حيث تُعزف على آلة الطنبور برفقة التراتيل الدينية، مستخدمين مقامات خاصة تميز هذه الطقوس، التي تقام غالباً في جلسات خاصة وبحضور النساء.
أما في العمل، يتمسك الكاكائيون بالمهن التراثية التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، مثل صناعة الفخار. داود الكواز، أحد العاملين في هذا المجال، يؤكد أنه لا يعتبر هذه المهنة مجرد مصدر رزق، بل يراها رمزاً” للانتماء.”
الديانة المخفية: حقائق لايعرفها الكثيرون
تعود الكاكائية الى آلاف السنين كما يروي اغلبية الناس، إذ تعتبر أقدم الديانات في بعض بلدان منطقة الشرق الأوسط ومنها العراق وخاصة محافظاته الشمالية فكركوك التي تعتبر موطنهم الأصلي وهم موجودون في مناطق مختلفة من ديالى مثل خانقين،مندلي،جلولاء وهم يرتبطون من خلالها بالكرد ارتباطاً قومياً، يلفت الشاب ارجمان إلى أن “أُمَراء الكاكائية هناك سيد مصطفى آغا وسردار آغا وهم لديهم شجرة النسب الصحيحة التي تعود الى ما قبل 1619م وقت العثمانيين”.
عزلة الكاكائيين: حكاية مجتمع مغلق
ما أُشيع عن الديانة المتخفية والبعيدة عن الأنظار “الأكثر انطوائية” إذ يحاول اشخاصها قدر المستطاع البقاء بعيداً عن الناس وعدم مشاركة طقوسهم وآراءهم؛ لان ديانتهم ليست تبشيرية أي تُحرم على أتباعها دعوة الأشخاص إلى دينهم واعتناقه لذا بقيت مُعظم طقوسها طي الكتمان طوال السنين إلا المناسبات والأعياد التي تجري بالعلن ويتم رصدها وتداولها والتحدث عنها، فدعوة الناس إلى مناسباتهم وفق الاعتقادات الكاكائية هو نوع من التبشير، ويوضح سلوم كيف تَخَفَت الكاكائية في كتابه (الأقليات في العراق ) قائلاً:”ظهور الكاكائية في محيط الأغلبية المسلمة، كجماعة صوفية اتاح لها إخفاء معتقداتها الحقيقية بما إن التصوف يقوم على الظاهر والباطن، أي فصل العالم الواقعي عن العالم الروحي”.
آخرون يرون إنها أبسط من ذلك بكثير.
الكاكائيون هم مسالمين جداً، يحبون ويحترمون جميع الاديان ويتعاملون مع الناس بلطف واحترام فهم هكذا بالفطرة، بحسب اراء بعض الباحثين إذ يقول المؤرخ العراقي عباس العزاوي في كتابة “الكاكائية في التاريخ” عنهم إن “الكاكائيون يستنكرون اللعن والسب، فلا يضمرون لأحد غيظاً، ولا يسبون احداً، ولا يحتقرون ديناً، ولا ينددون بعقيدة”.
بينما الاديان الاخرى يتعامل معها اليارسانيون “باحترام وحب” بحسب وصف رجب عاصي الذي قال:”ينظر اليارسانيون إلى الاديان والمذاهب نظرة متساوية دون تمييز، فالأديان كالإسلام والمسيحية واليهودية والزرادشية والبوذية والأيزيدية وغيرها لها قدسية ولرمزها ورسلها مكانة مهمة عند الكاكائية”.
معظم الافكار والاخبار والاحداث غير الموثوقة نتجت عن تلك الطقوس السرية والانطوائية كما نتجت الكثير من التساؤلات والافكار الخاطئة والروايات التي لا نعلم صحة أغلبها، وصاحبت تلك الأفكار اختلافات فكرية كثيرة حتى بين الكاكائيون نفسهم، وكل من يكتب عنهم بحسب نشطاء إذ يقول رجب عاصي “لا توجد تعددية زوجية عندنا إلا في حالات خاصة كعدم الانجاب والمرض المزمن الذي يتعذر معه المعاشرة الزوجية، ونادراً ما يحصل التفريق والانفصال إلا في حالات إستثنائية كالخيانة الزوجية” ويستذكر عاصي “سابقاً كان الزواج عند الكاكائيين يتم بثلاثة أيام وتسمية المولود في اسبوعه الأول وبمراسيم دينية خاصة بحضور رجل الدين والأهل والاقارب، لكن الان ونتيجة التطور الحضاري يذهب الكاكائيون إلى محاكم الأحوال الشخصية لإتمام كل تلك المناسبات.”
ويضيف على ذلك الباحث في التنوع الدكتور سلوم في كتابه (الأقليات في العراق) حول البعض من عاداتهم وصفاتهم:”ايامهم المقدسة والتي يتم الزواج بها غالباً هما يومي الإثنين والجمعة، ويطيعون السيد المعروف بـ (البير) وهو رئيسهم وهو من يتحكم بكل أموال الكاكائية، لا يخرجون عن أمره ولا يقبل السيد أي هدية او عطية، والكاكائيون لا يلعنون الشيطان لهذا أغلب المسلمين يشيرون لهم بعبدة الشيطان، وايضاً لا يبكون على الميت والحزن عندهم غير جائز حتى إنهم يحتفلون بالميت ويدقون الطبول”.
بينما يؤكد الشاب الكاكائي شاخوان ارجمان أنه “بعد 2003 ظهر العديد من الاشخاص الذين لا علم لهم سواء انهم يستطيعون الكتابة والتحريف وعملوا على نشر افكار مظللة عن الكاكائيون”، قائلاً “الصحيح إننا مسلمون ولا نخرج ابداً عن تعاليم الاسلام والقرآن الكريم ولا مناسبات لدينا غير الاسلامية من أيام عاشوراء وولادة النبي الكريم ووفاته”.
التسمية والنسب
يتبع الكاكائيون الشيخ عيسى البرزنجي وعائلته كأخيه موسى البرزنجي وابنه اسحاق واحفادهم وهم من نسل الامام اسماعيل ابن الامام موسى الكاظم كما يروي شاخوان ويقول هذا النسب مؤكد في كتب عديدة مثل “كتاب بحر الأنساب، وكتاب وجهاء الكرد في الإسلام للشيخ عبد الكريم بيارة”.
يكمل شاخوان وللتسمية العديد من الروايات أحدها: إن “الشيخ عيسى كان يبني التكية مع أخيه الشيخ موسى وناداه ليساعده في السقف فقال له بالكردي (كاكا راكيشان) أي بمعنى إسحب ومن كلمة كاكا التي تعني الاخ او الاخ الأكبر في اللغة الكردية جاءت تسمة كاكائية”.
هيثم السوّاك مسؤول ملف الأقليات في مفوضية حقوق الإنسان / ديالى: من خلال عملي مع الأقليات حقيقة لمست إن أغلب افراد الأقليات يفضلون عدم تناول مواضيعهم في الاعلام خوفاً من النقد اللاذع الذي يتعرضون له في بعض الاحيان بالاضافة الى الهجمات الالكترونية وقد يتطور الأمر ليشمل الاغتيالات حتى مثلما صار في بعض السنين السابقة من قبل عصابات متطرفة استهدفت تلك الأقليات.
يؤكدون أنهم مسلمين ويحضرون المناسبات الاسلامية كافة والحكومة العراقية تراعي ذلك ولهم حقوقهم دون أي تمييز حكومي تحديداً في الجانب الأمني إذ تعاملهم قواتنا الأمنية على إنهم جزء لا يتجزء من نسيج محافظة ديالى وتنوعها ولكن تبقى لديهم معاناة بعدم وصول من يمثلهم إلى بعض مؤسسات الدولة وبالأخص “الكوتة البرلمانية”.
نحن كمفوضية نتابع بالتأكيد كل حقوقهم وأكثر ما نركز عليه موضوع الهجرة “الهجرة العكسية” التي عانت منها أغلب الأقليات في العراق رغم ان التنوع هو أمر نفتخر به بمحافظة ديالى ويمثل زهو حضاري وفكري ويعكس صورة العراق المصغر في محافظتنا، لكن الهجرة حصلت وتحصل بسبب عدم تعزيز سبل البقاء لهم في نسب الوظائف والعمل الخاص، وذلك ما يجعل المجتمع بحاجة إلى تمكين وتعزيز الثقافة الاجتماعية وتقبل الآخر والتعايش السلمي فرغم وجود الكثير من البرامج لتعزيز هذه المقومات لكنها ليست في المستوى المطلوب بظل الأزمات الحالية.