“نقارُ الخشب” يُهاجم بساتين ديالى والحكومة لم تصل بعد لإنقاذ الاشجار.
طيف السومري
بقي المعلم الخمسيني حسين هادي يعتني ببستانه في قرية “خرنابات” رغم تجريف أغلب البساتين من حوله وتحويلها إلى مبانٍ استثمارية وسكنية بسبب شحّة المياه في السنوات الأخيرة، وكذلك بسبب الزيادة السكانية الكبيرة، إلا أنه لا يزال يعمل في أرضه الزراعية التي يرفض بيعها أو تجريفها، لأنها ذكرى من أبيه وجده. وهو سعيد ويشعر براحة كبيرة عندما يأتي إلى البستان لتقليم الأشجار وتنظيف الأرض، كما أخبرنا وهو يقف عند نخلة بأعينٍ تدمع، ينظر إلى بقية الأشجار ويأخذ شهيقًا طويلًا كأنه يحاول أن يستنشق كل رحيق الأشجار والزهور التي في أرضه.
إلى الآن يحرص هادي على قضاء أغلب أوقاته في بستانه بسقي الأشجار، وتنظيف الجداول، وجني التمور وتغليفها مستخدمًا أوراق الجرائد القديمة وميزانًا ذو كفتين لقياس الوزن قبل توزيعها وبيعها لبعض المحال التجارية في القرى والأحياء المجاورة.
هادي لا يزال مستعدًا لمواجهة كل تحديات التجريف وسط قريته التي تحولت معظم بساتينها إلى أحياء تعجّ بالسكان، وليحافظ بدوره على هوية القرية الزراعية التي فازت عام 1956 بالكأس الأول على كل المحافظات العراقية في إنتاج الفواكه، كما يروي لنا بعض كبار السن والمتقاعدين الجالسين في أحد أقدم مقاهي خرنابات، على كراسٍ وطاولات مصنوعة من أشجار النخيل، وسط أحد شوارع القرية التي كانت تُعرف سابقًا باسم “خيرُ نبات” واختُصِر الاسم مع مرور السنين ليصبح “خرنابات”.
عمليات التجريف لا تقتصر على هذه القرية الصغيرة التي تمتاز ببيئتها العشائرية والتي تحيط بها بساتين النخيل والحمضيات والفواكه من جهاتها الأربعة، بل تسير مثل نيران مشتعلة ولهب ينتشر ليشمل كل قرى المحافظة. إذ تم تجريف قرابة ستة آلاف دونم من البساتين في بعقوبة ومحيطها بعد عام 2003 من أجل بناء مشاريع سكنية، بحسب قائمقام قضاء بعقوبة عبدالله الحيالي.
محافظة ديالى التي كانت تُعرف بسلة العراق الغذائية وتلقب بمدينة البرتقال، اليوم تستورد أغلب المحاصيل الزراعية من الخارج بعد أن كانت هي المصدر وأصبحت من أقوى المستهلكين. إذ صار الاستثمار السكني هو الأكثر نشاطًا في المحافظة، واندثرت الزراعة التي كانت تحتل مراكز الصدارة بين المحافظات العراقية. فبحسب تقرير لوزارة الزراعة العراقية نُشر عام 2020، تحتل محافظة ديالى المركز الثالث على العراق بعد محافظة بغداد وبابل بإنتاج التمور، الذي بلغ أكثر من 88 ألف طن فقط في العام نفسه، إذ كانت تحتوي المحافظة على 2,615,993 نخلة وفق التقرير المنشور.
بدأت المحافظة تشهد عمليات التجريف بكثرة منذ أكثر من عشرين عامًا، وتحديدًا المناطق الزراعية المحيطة بالمدن نظرًا للتوسع السكاني الذي يحصل في مراكز المدن والذي بدأ يتمدد إلى الأطراف أكثر من المركز الذي لا يستقبل الفقراء وأصحاب الدخل المحدود مع أسعاره الباهظة للأراضي والمنازل، كما أوضح مدير إعلام دائرة زراعة ديالى محمد المندلاوي، الذي أكد لشرق العراق: “إن دائرته قدمت عشرات الدعاوى أمام المحاكم المختصة في محاولة لإيقاف التجريف وتطبيق القانون”. وقال المندلاوي: “إن هناك إجراءات فعلية لإحصاء الأراضي في الوقت الراهن، ولكن في واقع الحال هي مساحات كبيرة”.
ولا تقتصر محافظة ديالى على زراعة الفواكه والحمضيات والنخيل فقط، لا سيما الحنطة التي بلغ إنتاج محصولها 571 ألف طن بمساحة مزروعة تُقدّر بأكثر من 680 ألف دونم، والشعير بإنتاج محصول بلغ أكثر من 29 ألف طن وبمساحة مزروعة تتجاوز 67 ألف دونم لعام 2020، وفق وزارة الزراعة.
المجمعات السكنية وتفعيل القوانين هي أحد الحلول التي أشار إليها رئيس اتحاد الجمعيات الفلاحية في ديالى، رعد مغامس، ضمن الجهود المبذولة لامتصاص أزمة السكن في المحافظة، بعد أن أقر بأن التجريف ابتلع مساحات شاسعة من البساتين في السنوات الماضية، وتحديدًا في بعقوبة.
فيما أوضح قائمقام قضاء بعقوبة، عبدالله الحيالي، بأن لا يمكن إنهاء التجريف إلا بمسارين؛ الأول هو توفير الوحدات السكنية التي تخلق معادلة توازن مع الطلب المحلي، والثاني هو تطبيق القوانين التي تعاقب من يقوم بالتجريف. وبخلاف ذلك ستبقى دوامة التجريف إلى ما لا نهاية.
وبحلول أخرى تشمل الخدمات، قال رئيس غرفة تجارة ديالى، محمد التميمي: “إن خارطة إنهاء التجريف تعتمد على مبدأ توفير الخدمات للأراضي التي تفتقر إلى أبسط أنواع البنى التحتية، والتي لا يسكنها أحد لصعوبة العيش فيها”، وأكد: “إن توفير الخدمات الأساسية للأراضي السكنية التي وزّعت في آخر ثلاثة عقود والتي تتجاوز 20 ألف قطعة في بعقوبة سيؤدي إلى انحسار التجريف بنسبة 70% وانخفاض أسعار العقارات بنسبة تصل إلى 40% وكذلك انتقال الزخم السكاني إلى أطراف المدينة”.
يمثل التجريف ظاهرة سلبية لها تداعيات خطيرة، كما يؤكد النائب مضر الكروي، الذي أشار إلى الجهود المبذولة من أجل تفعيل قانون 320 الذي يؤدي إلى تحويل الأراضي الزراعية إلى طابو صرف مع الحفاظ على ما تبقى منها وتوفير الخدمات اللازمة للأراضي الزراعية والبساتين، مؤكدًا بأن الاستثمار لا يؤدي إلى تجريف الأراضي الزراعية، بل يضمن حل أزمة السكن بخلق وحدات نظامية مع تقديم خدمات متكاملة.
تلك الثروات الزراعية كانت تمثل اقتصادًا كاملاً للبلاد وتساعد في التنمية ورفع الحالة المعيشية لملايين العراقيين بتوفيرها فرص عمل للكثيرين، إذ يُقدّر عدد الفلاحين عام 2020 بأكثر من 22 ألف فلاح يعملون في الأراضي الزراعية بمحافظة ديالى، التي كانت تساعد في وضع حد للبطالة التي صارت أكبر أزمة تواجه الشباب اليوم. وأيضًا تحمل هويتنا الوطنية بإنتاج التمور على وجه الخصوص والمحافظة على أشجار النخيل التي تعتبر رمزًا وطنيًا عراقيًا منذ الأزل، ولها مكانة مقدسة في أغلب الحضارات التي شهدتها بلاد ما بين النهرين، وللمكانة المرموقة التي كانت تحتلها محافظة ديالى بين المحافظات العراقية في إنتاج هذه الثروات والمحاصيل الزراعية.”
جميع الصور المرفقة التقطت بعدسة المصور الصحفي “مروان الفجر” لصالح موقع شرق العراق
أنتجت هذه المادة بدعم من مشروع قريب ميديا الممول من CFI و AFD