جنان السراي – شرق العراق
في العديد من المجتمعات التقليدية في العراق، لا تزال المعتقدات القديمة المتعلقة بالدورة الشهرية تُنقل من جيل إلى آخر، خاصة في المناطق الريفية والوسطى والجنوبية مثل محافظة ديالى التي تقع في الجزء الشرقي من العراق. وهذه المعتقدات، التي تفتقر غالبًا إلى الأساس العلمي، تؤثر بشكل كبير على الفتيات والنساء اللواتي يواجهن ضغوطًا اجتماعية وتجريبية تعيق حياتهن اليومية. من خلال مجموعة من القصص الشخصية من مختلف أنحاء العراق، يسلط هذا التقرير، الذي أعده موقع “شرق العراق” الضوء على تأثير هذه الموروثات على حياة النساء في العراق وكيفية تفاعلهن معها في ظل التحديات المستمرة.
“ستفسدين الطرشي لأنك حائض!“
فاطمة حسين، 31 عامًا، من محافظة ديالى، تحكي عن موقف تعرضت له أثناء إعداد الطعام مع والدتها. بينما كانت تساعد والدتها في تحضير وجبة تقليدية، طلبت والدتها منها الابتعاد فورًا عندما لاحظت أن فاطمة حائض. والدتها صرخت بها قائلة: “ستفسدين الطرشي لأنك حائض!”، وهو ما جعل فاطمة تشعر بالارتباك والصدمة. لم تفهم لماذا قد يؤثر الحيض على الطعام. هذا الموقف يُسلط الضوء على معتقدات قديمة لا تزال سائدة في بعض العائلات العراقية، حيث يُنظر إلى الدورة الشهرية على أنها شيء يمكن أن يُفسد الطعام، خصوصًا الأطعمة التي تحتوي على الخل.
“طمس الأصابع في الطحين“
أمل محمود، 35 عامًا، من ناحية بهرز، جنوب بعقوبة التابعة لمحافظة ديالى، تروي كيف اتبعت تقليدًا شعبيًا قديمًا عندما بلغت ابنتها. تقول: “سمعت من صديقاتي أنني يجب أن أطمس أصابع ابنتي في الطحين في أول يوم من حيضها”. رغم أنها لم تسمع بهذا التقليد من قبل، إلا أنها قررت تجربته نظرًا لتأثير الموروثات عليها. يعتمد هذا التقليد على الاعتقاد بأن عدد أيام الدورة الشهرية يتحدد بناءً على عدد الأصابع التي تُغمَس في الطحين. على الرغم من عدم وجود أساس علمي لهذا المعتقد، إلا أن مثل هذه الممارسات لا تزال قائمة في مناطق وسط وجنوب العراق.
العادات العشبية لتخفيف الألم
من قضاء النعمانية في محافظة واسط، تُروي لنا رسل خليل كيف أن جدتها كانت تقدم لها مشروب الأعشاب المعروف بـ “الزهورات مع أعواد دارسين” في أول أيام حيضها. كان هذا المشروب التقليدي يهدف إلى تقليل التقلصات والآلام الحادة المرتبطة بالحيض. ورغم أن رسل تحب هذا المشروب لما يمنحها من شعور بالدفء والاهتمام، إلا أن هذه الممارسة هي جزء من العادات المتوارثة التي تربط الأعشاب بتخفيف آلام الدورة الشهرية.
“الاستحمام ممنوع أثناء الحيض”!
نور أسعد (اسم مستعار)، 38 عامًا من قضاء المقدادية شرق محافظة ديالى، تروي لنا تجربتها الشخصية مع المعتقدات الخاطئة التي رافقت حيضها. تقول نور إن عمتها كانت تمنعها من الاستحمام خلال أيام الحيض، مدعية أن ذلك سيؤدي إلى “قطع الدورة”. رغم أن والدتها كانت تركز على الاهتمام بالنظافة الشخصية وتحثها على الاستحمام بالماء الدافئ لتخفيف التقلصات، إلا أن هذا التضارب في الآراء بين أفراد العائلة جعل نور تشعر بالحيرة.
العار وصدام الأجيال
شيماء وعد، 23 عامًا، من البصرة، تعيش مع جدتها ووالدتها. تحكي كيف فوجئت برد فعل جدتها الغاضب عندما أخبرتها عن حيضها الأول. اعتبرت الجدة الحيض عارًا ووبخت شيماء بشدة، مما جعلها تشعر بالخجل والحيرة. تقول شيماء: “لم أفهم لماذا كانت جدتي ترى الحيض بهذه الطريقة، رغم أنه جزء طبيعي من النمو”. هذا الموقف يعكس صدامًا بين الأجيال، حيث تجد الفتيات الشابات أنفسهن عالقات بين موروثات الماضي وحاجتهن إلى الفهم والدعم.
“ذبت عباتها بالشط”
آيات أحمد، 25 عامًا، من الصويرة في محافظة واسط، تروي موقفًا محرجًا تعرضت له عندما دخلت جارتهم إلى منزلهم وسألت والدتها بشكل غير مباشر عن بلوغها بقولها: “بنتچ ذبت عباتها بالشط؟”. هذه العبارة تشير إلى مرحلة البلوغ وإلى ارتداء الفتاة العباءة كعلامة على نضوجها. آيات شعرت بالحرج الشديد وبدأ العرق يتصبب منها، مما يعكس مدى الضغوط الاجتماعية التي تتعرض لها الفتيات في مثل هذه المواقف.
الموروثات الاجتماعية
تتعرض الفتيات العراقيات للعديد من المواقف التي تُنتهك فيها خصوصيتهن، حيث تُناقش تفاصيل حياتهن الخاصة بشكل مفتوح بين النسوة في المنزل أو بين الجارات، مما يسبب لهن إحراجًا كبيرًا ويحد من حريتهن الشخصية. تُعاني العديد من الفتيات من هذه التدخلات في حياتهن الخاصة، بل تتجنب الكثيرات ذكر الحيض باسمه الحقيقي، مستخدمات رموزًا وكلمات مبهمة مثل “عليه الغضب” أو “إجت الخالة”. ومع انتشار اللغة الإنجليزية، أصبحت الفتيات يستخدمن مصطلحات مثل “MC” للإشارة إلى الدورة الشهرية.
العديد من العائلات، خاصة في المجتمعات التقليدية، ما زالت تؤمن ببعض المعتقدات القديمة حول الدورة الشهرية، مما يضفي على هذه التجربة الطبيعية هالة من العار والسرية. حتى إن النساء لا يستطعن البوح بتلك الآلام أو إظهارها أو حتى الحديث عن أنهن مريضات على الأقل. تاريخيًا، كانت الدورة الشهرية تُعتبر شيئًا غير نظيف أو ملعون في بعض الثقافات، وهو ما جعل النساء يعانين من التمييز والعزل خلال فترات الحيض. كان يُعتقد أن المرأة الحائض يمكن أن تُفسد الطعام أو تُسبب الضرر للأشخاص أو الأشياء التي تلمسها. فكل شيء يصبح مرتبطًا “بالعيب” و”أنتِ كبرتي”، وهي معتقدات نشأت من الجهل بالعملية البيولوجية الطبيعية التي تمر بها كل امرأة.
هذه الأفكار الخاطئة كوّنت صورًا نمطية عن المرأة التي تمر بتجربة الدورة الشهرية، وتزيد من إحساس النساء بالعار. وصارت الدورة الشهرية موضوعًا محظورًا لا يُتحدث عنه إلا بصوت منخفض وخجل، هكذا تصف نسويات وضع النساء أثناء دورتهن الشهرية.
إن الدورة الشهرية أو “الطمث” يرتبط عند المرأة بالإخصاب والولادة، إلا أن الحضارات القديمة كانت لها مواقف تكاد تكون في مجملها سلبية تجاه هذه المرحلة التي تمر بها المرأة، باستثناء ما حدث في بابل، عندما كانت الآلهة “عشتار”، كبيرة الآلهة، تأخذ استراحتها بسبب حيضها المقدس. كان البشر يأخذون إجازة من عملهم، بل يكاد العالم القديم يتوقف عن التنفس؛ لأن مع دورة عشتار تكتمل دائرة الحياة والخصوبة والنماء، بحسب المعتقدات البابلية القديمة.
هذا التقدير لم يستمر طويلًا، إذ سادت لاحقًا نظرة أخرى تقلل من قيمة المرأة، معتبرة إياها “نجسة” خلال فترة الطمث.
تأثير المعتقدات على الصحة النفسية
في حديث خاص لـ ” شرق العراق”، أكد الدكتور جعفر البريقعاوي، المقيم الأقدم في الطب النفسي، أن “الاعتراف بالحيض كجزء طبيعي من حياة المرأة وإزالة الوصمة المرتبطة به خطوة ضرورية لتحسين الصحة النفسية والجسدية للنساء”. وأوضح أن المفاهيم المجتمعية التي تعتبر الحيض عورة تحتاج إلى تغيير، داعيًا إلى تشجيع النساء على الحديث بحرية عن تجاربهن مع الدورة الشهرية، لما لذلك من أثر في تقليل الضغط النفسي والكبت الذي تعاني منه العديد من النساء.
وأشار البريقعاوي إلى أن “معظم النساء يعانين من آلام الدورة الشهرية وأعراضها قبل أسبوع من موعدها، فيما تتعرض أخريات لتلك الأعراض خلال أسبوع التبويض”. ووصف هذه الحالة بـ “متلازمة ما قبل الحيض”، مشيرًا إلى أنها تتضمن مجموعة متنوعة من الأعراض التي قد تشبه في شدتها أعراض الحمل، نتيجة للتقلبات الهرمونية المشتركة بين الحالتين.
وتحدث عن تأثير المعتقدات الخاطئة على الصحة النفسية، مؤكداً أن “الاعتقاد بأن الحيض يجعل المرأة غير طاهرة يعمّق مشاعر العار ويؤدي إلى كبت مشاعرهن الطبيعية”، مما يسهم في ظهور مشكلات مثل الاكتئاب والقلق المزمن. وحذر من أن الكبت النفسي الناتج عن الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالدورة الشهرية قد يؤدي إلى تفاقم الآلام أو اضطرابات صحية بسبب عدم القدرة على طلب المساعدة.”
العادات والتقاليد وتأثيرها على النساء
من جانبها، تحدثت الناشطة والمدافعة عن حقوق المرأة، سارة جاسم، عن تأثير العادات والتقاليد على حياة النساء، وقالت: “ما زالت ممارسات تعتمد على الأعشاب والعلاجات البدائية تُنقل بين الأجيال”. وأوضحت أن مفهوم “العيب” يلعب دورًا كبيرًا في تقييد النساء، خاصة في شهر رمضان، حيث تُمنع الفتيات من تناول الطعام علنًا أثناء الدورة الشهرية.
وأضافت جاسم أن “الوعي الثقافي والعلمي حول الدورة الشهرية لا يزال محدودًا”، مشيرة إلى أن النساء في كثير من الأحيان يفتقرن إلى الدعم الصحي والنفسي الذي يحتجن إليه خلال هذه الفترة. ومع ذلك، أكدت أن التطور التكنولوجي والثقافي ساهم في تحسين وعي المجتمعات وتغيير بعض المفاهيم الخاطئة.
التمييز ضد المرأة الحائض
العديد من المجتمعات التقليدية لا تزال تتمسك بمعتقدات خاطئة حول الدورة الشهرية، مما يضفي على هذه التجربة الطبيعية هالة من العار والسرية. في بعض الثقافات، كانت المرأة الحائض تُعتبر “غير نظيفة” أو “ملعونة”، وكان يتم إبعادها عن الأنشطة اليومية العادية.
وأوضحت الدكتورة فاطمة محمد، اختصاصية الطب والجراحة العامة، أن “هذه المعتقدات لا أساس لها من الصحة.”
وأكدت أن دم الحيض “نظيف جدًا”، وهو الدم الذي كان سيغذي الجنين في حال حدوث الحمل. وأضافت أن العديد من الفتيات يلجأن إلى تناول المسكنات دون استشارة طبية، مما قد يؤدي إلى مشكلات صحية طويلة الأمد.
وأشارت إلى أن العادة الوحيدة التي تستند إلى أساس علمي هي استخدام القرفة، حيث أظهرت الدراسات أن النساء اللواتي يتناولن كبسولات القرفة يعانين من انقباضات رحمية أقل. واختتمت نصيحتها بالتأكيد على ضرورة تجنب المسكنات في حالات الأمراض المزمنة، وشرب كميات كافية من الماء لتجنب تأثيراتها السلبية.
الخلاصة
تبرز هذه القصص مدى تأثير المعتقدات الشعبية على حياة النساء في العراق، خاصة فيما يتعلق بالدورة الشهرية. على الرغم من التطور التكنولوجي وانتشار المعرفة عبر الإنترنت، لا تزال هذه الموروثات تسيطر على حياة الكثيرات، وتفرض عليهن قيودًا نفسية واجتماعية.
وتُعتبر إزالة الوصمة المرتبطة بالدورة الشهرية وتغيير المفاهيم الخاطئة خطوة حيوية لتحسين الصحة النفسية والجسدية للنساء. ويتطلب ذلك جهودًا مجتمعية وثقافية كبيرة لنشر الوعي وتصحيح المفاهيم.
أنتج هذا التقرير بدعم من برنامج Qarib media الممول من CFI & AFD