بيئة ومدينة

محارق مستشفيات ديالى.. الداء والدواء من مصدر واحد

كانت شهزنان التميمي مرافقةً لشقيقتها أثناء عملية الولادة في مستشفى البتول التعليمي ببعقوبة قبل أشهر قليلة، حين تفاجأت بالدخان يتسرّب داخل ردهات المستشفى، مما سبّب صعوبة في التنفّس وحرقة في العين، وكان مصحوبًا برائحة كريهة. تقول شهزنان: “الريحة تعمي وتخنق، خصوصًا بصالة الولادة، انترست دخان”، وتتساءل بعد أن اكتشفت لاحقًا سبب هذا الدخان عن أسباب الحرق بهذه الطريقة، وداخل المستشفى؟

منذ سنوات، وبشكل شبه يومي، تتحوّل سماء الأحياء المحيطة بمستشفى البتول التعليمي في بعقوبة إلى طبقة من السحب الرمادية الثقيلة، نتيجة حرق النفايات الطبية الملوثة باستخدام محرقة قديمة يزيد عمرها عن أربعة عقود، لتصدر انبعاثاتها الضارة إلى الأحياء السكنية الملاصقة للمستشفى.

صورة صورها احد مراسلي شرق العراق توثق الدخان المتصاعد من محرقة مستشفى البتول في يوم الخميس ٣١-١-٢٠٢٥

محمد جاسم، واحد من هؤلاء السكان، يسكن بجوار المستشفى ويلاحظ منذ سنوات طويلة تصاعد الأدخنة السوداء من المستشفى مصحوبة بروائح كريهة، ويقول في حديثه لـ “شرق العراق”: “نخاف من الإصابة بأمراض سرطانية، لأن النفايات الطبية بعضها خطير جدًا”.

وما يجري في مستشفى البتول، يجري كذلك في مستشفيات ديالى الأخرى، التي تتنفس كوحش لا يتوقّف عن إطلاق انبعاثاته الضارة والمسبّبة لأمراض عديدة، على الأقل المرتبطة بالاضطرابات التنفسية، لتتحوّل بذلك إلى مصدر ليس للرعاية الصحية فقط، بل مصدرًا للتلوث أيضًا.

شكاوى مستمرة

وتتحدث الجهات المعنية عن تلقيها الكثير من شكاوى المواطنين الساكنين بالقرب من المستشفى، إذ يشير صلاح مهدي، مدير مكتب مفوضية حقوق الإنسان في ديالى، إلى وجود مخاوف جدية من التأثيرات الصحية الناتجة عن تصاعد دخان حرق النفايات الطبية في مستشفى البتول.

“تلقت المفوضية العديد من الشكاوى خلال الأشهر الماضية”، يقول مهدي، الذي يؤكد أيضًا وجود مخاوف تتجاوز تصاعد الأدخنة، وتصل إلى احتمالية تسرب الفضلات الطبية إلى خارج المحرقة، مما يعني وجود مخاطر صحية أكبر

وتلقت قائمقامية بعقوبة شكاوى أخرى أيضًا حول الموضوع نفسه، بحسب عبد الله الحيالي، قائمقام بعقوبة السابق.

“فاتحنا دائرة الصحة بشكل مباشر للوقوف على التأثيرات البيئية والصحية للمحرقة، خاصةً مع انتشار صور وفيديوهات تظهر تصاعد كميات كبيرة من الأدخنة السوداء إلى الأجواء، مما أثار قلق السكان”، يقول الحيالي

محرقة مستشفى بعقوبة التعليمي – مصدر الصورة دائرة بيئة ديالى خلال زيارتها لتفقد المحارق بتاريخ ١٠ تشرين الثاني ٢٠٢٤

ويذكر أيضًا أن دائرة الصحة ردّت في كتاب رسمي أكدت فيه أن المحرقة تعمل ضمن المعايير البيئية والمواصفات المعتمدة، ولا تشكّل تهديدًا مباشرًا للصحة العامة أو البيئة. وأشار الحيالي إلى أنه “لم تُسجَّل أي حالات إصابة بالسرطان في المناطق المجاورة للمستشفى، ما يُضعف من فرضية وجود علاقة مباشرة بين المحرقة والأمراض السرطانية”.

رغم ذلك، فهو يؤكد أن المحارق المستخدمة في مستشفيات بعقوبة قديمة الطراز، ويتطلب الأمر إعادة النظر فيها واستبدالها بمحارق تراعي المعايير البيئية والصحية.

الحرق.. الحل الوحيد

ولا تنفي دائرة صحة ديالى قِدَم المحارق الطبية، إذ يؤكد فارس العزاوي، مدير إعلام الدائرة، أن محرقة مستشفى البتول تجاوز عمرها أربعة عقود، وهو نفس عمر المستشفى تقريبًا، الذي أُنشئ في ثمانينيات القرن الماضي.

“قدّمنا أكثر من طلب لوزارة الصحة للحصول على محارق طبية جديدة بتقنيات حديثة”، يتحدث العزاوي لـ”شرق العراق”

ويطمئن العزاوي المواطنين من مخاطر الحرق، موضحًا أن حرق النفايات الطبية يتم وفقًا لمعايير مشددة، وأن أي حديث عن تسببها بالتلوث أو الأمراض السرطانية غير دقيق علميًا، مشيرًا إلى أن الحرق هو السبيل الوحيد للتخلص منها ومن تأثيراتها السلبية، “فلا يمكن تركها أو رميها في المطامر”.

محرقة مستشفى بعقوبة التعليمي – مصدر الصورة دائرة بيئة ديالى خلال زيارتها لتفقد المحارق بتاريخ ١٠ تشرين الثاني ٢٠٢٤

وتعتزم دائرة الصحة، بحسب العزاوي، الحصول على محارق حديثة عن طريق وزارة الصحة تقلّل من حجم الانبعاثات والأدخنة، كما تخطّط لنقل المحارق الرئيسية للمستشفيات إلى خارج المدن.

محارق معمرة

وعلى قِدم عمر محرقة مستشفى البتول وتأثيرها البيئي، “يبدو أنها الأحدث نسبيًا في مستشفيات ديالى”، بحسب عبد الله الشمري، المدير الأسبق لبيئة ديالى، ويشير الى أن “معظم محارق المستشفيات غير نظامية وغير مستوفية للشروط البيئية”.
ويُطلق الشمري تحذيراته من خطورة تعطل المحارق أو تشغيلها بطريقة غير مطابقة للمعايير البيئية، مما قد يؤدي إلى انتشار الأمراض، بسبب خطورة النفايات الطبية التي يتم حرقها.

محرقة مستشفى البتول التعليمي – مصدر الصورة دائرة بيئة ديالى خلال زيارتها لتفقد المحارق بتاريخ ١٠ تشرين الثاني ٢٠٢٤

ولا ينحصر التلوث في السماء فقط، ففي نهر ديالى، الذي يقع مستشفى البتول على ضفته الغربية، هناك أكثر من ٢٠ منفذًا لتصريف مياه الصرف الصحي تُلقى في النهر، من بينها مياه الصرف الصحي الخاصة بالمستشفى واعتبر الشمري ذلك “خطرًا بيئيًا يهدد الشريان الأكبر للحياة في المحافظة”.

ولا يبدو أن حلولًا قريبة تنتظر هذه المشكلة التي يزداد خطرها بمرور الوقت، ففي ظل الأزمة المالية، يبدو موضوع تجهيز المستشفيات بمحارق حديثة نوعًا من الترف.

رغم ذلك، يدعو مدير مكتب مفوضية حقوق الإنسان إلى تشكيل لجنة عليا لدراسة ملف محارق المستشفيات في ديالى، وإلى ضرورة اعتماد محارق حديثة تستخدم تقنيات متطورة لمعالجة النفايات الطبية، كما هو الحال في المستشفيات العالمية، للحد من التلوث البيئي وضمان عدم تأثيرها على الصحة العامة.

الاف الاطنان من النفايات

والتلوث البيئي مشكلة تلازم معظم المستشفيات العراقية.
فمن أصل 212 مستشفى حكومي شملها المؤشر البيئي الخاص بوزارة التخطيط لعام 2023، هناك 140 مستشفى فقط تمتلك محارق، ولم يشر التقرير إلى مدى مطابقة هذه المحارق للشروط البيئية، لكنه أشار إلى أن 32 مستشفى فقط، حكومي وأهلي، تحتوي على المرشحات الكيسية التي تعمل كفلاتر في المحارق.

وتبلغ كمية النفايات الاعتيادية المتولدة من المستشفيات الحكومية والأهلية في العراق أكثر من 19,270 طنًا سنويًا، أما النفايات الطبية الخطرة فتصل إلى 5,505 أطنان سنويًا، ومعظمها تُحرَق في نفس المحارق القديمة، بحسب المؤشرات البيئية لجهاز الإحصاء المركزي.

ويرى عضو مجلس النواب العراقي، باقر الساعدي، أن “عملية إحراق النفايات الطبية ضرورية، لأنها لا يمكن التخلص منها عبر المطامر”. ويشير الساعدي إلى “وجود تنسيق مع وزارة الصحة بشأن ضرورة تجهيز المستشفيات الرئيسية في بغداد والمحافظات بمحارق ذات تكنولوجيا حديثة، وهنالك خطة في هذا الاتجاه”.

ويتفق الساعدي على أن بقاء المحارق داخل المدن يسهم في تلوث الأجواء، مما يستدعي إنشاء محارق مركزية خارج المناطق السكنية لإتلاف المواد الطبية المستهلكة وفق الضوابط المعتمدة.

يمكنك مشاهدة هذا الفديو من احد المواطنين ارسله في بداية شهر شباط ٢٠٢٥ الى بريد منصة شرق العراق.

تم انتاج هذا التقرير بدعم من مشروع “قريب” برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى